Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

moi brahim elhamri

8 mars 2008

سهيل إدريس ودوره الثقافي بالاشتراك مع مكتب مجلة

سهيل إدريس ودوره الثقافي

      بالاشتراك مع مكتب مجلة الآداب البيروتية بالمغرب ، ينظم مختبر السرديات مائدة مستديرة في موضوع ( سهيل إدريس ودوره الثقافي في العالم العربي ) وذلك يوم السبت 8 مارس2008 بقاعة الاجتماعات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، ابتداء من الساعة التاسعة صباحا .

    يشارك في هذه المائدة : عبد الحق لبيض ،مبارك ربيع ، محمد معتصم ، عبد الواحد خيري ، ميلود العثماني، عمروالقاضي، عبد اللطيف محفوظ ، شعيب حليفي....

Publicité
3 mars 2008

motassim

mon maitre mohamed motassimIMG_0048IMG_0052motssim m3a aw lado

Arb

Posté par motassim à 16:37 - Etudes/دراسات - Commentaires [0] - Rétroliens [0] - Permalien [#]

19 novembre 2007

تعزية

وفاة والدة الشاعر مصطفى الشليح
انتقلت إلى دار البقاء، مشمولة برحمة الله، أول أمس
الجمعة16 نونبر 2007، والدة أخينا الدكتور مصطفى الشليح
الشاعر و أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب و العلوم
الإنسانية بالمحمدية، و بهذه المناسبة الأليمة يتقدم
أحبته من آل الحرف و السؤال بفرع اتحاد كتاب المغرب
بمدينة سلا، بأحر التعازي و أصدق عبارات المواساة، راجين
من العلي القدير أن يتغمد الفقيدة بالرحمة و المغفرة و
أن يسكنها فسيح الجنان، و أن يرزق العزيز مصطفى الشليح و
باقي أفراد الأسرة الكريمة الصبر و السلوان، إنه سميع
مجيب.
و إنا لله و إنا إليه راجعون
عن مكتب الفرع
رجاء الطالبي

Posté par motassim à 15:53 - أخبار ثقافية - Commentaires [0] - Rétroliens [0] - Permalien [#]

إعلان عن لقاء ثقافي بمكناس

Posté par motassim à 07:50 - أخبار ثقافية - Commentaires [0] - Rétroliens [0] - Permalien [#]

08 novembre 2007

القصة القصيرة المغربية. 10

مفهوم القصة عند أحمد زيادي               

1/ أحمد زيادي واحد من القصاصين المغاربة السبعينيين، إلا أن في نصوصه روحا خاصا تشده إلى ما قبل فترة السبعينيات بالمغرب. يتجلى ذلك في :

·       مفهومه الخاص للقصة القصيرة ووظيفتها

·       مضامينه وموضوعاته القصصية

·       لغته المسكوكة النقية

1.1/ مفهوم القصة ووظيفتها:

يتلخص مفهوم أحمد زيادي للقصة القصيرة في كونها حكاية، قد تنبني على واقعة تاريخية، كما يمكنها أن تنبني على نكتة ومستملحة طريفة، أو خرافة شعبية، أو عيطة مرساوية. إن ما يهم أحمد زيادي في القصة ليس البناء الداخلي أو الخارجي. بل تهمه وظيفتها الاجتماعية وغيتها التربوية والتنويرية. فالقصة مرادفة للتنوير، منتصرة للإنسان المقهور تحت سطوة الإكراهات الاجتماعية والثقافية والسياسية...

القصة أيضا ذاكرة حية لا يبليها الزمان، بل هي والزمان (التاريخ) صنوان، يسيران سيرا متوازيا. يقابل أحدهما الآخر. إن هما لم يلتقيا مباشرة فإنهما يلتقيان كأطياف بعضهما يعكس صدى (خيال) الطيف الآخر. تقول:" ينعشني صليل السيوف، ولعلعة الرصاص". ص (25). من هنا يخلق أحمد زيادي تميزه، ويزيغ عن مجايليه، وينتسب إلى سابقيه حيث يعلو صوت الوطن، (مناهضة المستعمر)، على كل محتوى، ويصبح الوطن شخصية قصصية تمتاز بأفضل الصفات وأبهاها. بل شخصية قدسية علوية يستشهد في سبيلها ويضحى من أجلها بالغالي وبالنفس. ويضحى في سبيلها حتى بالتطور التاريخي، والحتمية التاريخية (الأدبية). إن مفهوم القصة القصيرة لدى أحمد زيادي يتمثل في اختيار موقع الأديب الوطني المدافع عن القيم العليا، والحارس الأمين لمقابر الأجداد، والمؤرخ الذي لا يمل من رواية صدى المعارك ضد المستعمر الغاشم الذي عات في الأرض فسادا، واستنزف الأعماق، وشوه النفوس والآثار، وطمس الحقائق، ونكت كل العهود والوعود. وموقع الأديب يحتم على الكاتب تنوير النفوس، وتبصير الأذهان من خلال تربية الناشئة. واختيار هذا الموقع يبرز بحدة وبجلاء أيضا كيف كانت مرحلة السبعينيات حاسمة في فرز خيارات عدة، وكيف كانت فترة حاسمة في الخروج بالأدب المغربي من التبعية والتعثر إلى عتبة الاستقلال الذاتي.

2.1/ المضامين والموضوعات:

تتصل المضامين والموضوعات باختيار الكاتب وبمفهومه الخاص للقصة القصيرة. وتتصل بقصدية التنوير. ومن تلك المضامين ما يلي :

أ/ الوطنية: يوظفها الكاتب كنزعة تتضمن قيما عليا أخلاقية واجتماعية وسياسية، ويلح على ألا تسقط منا ونحن نؤرخ للأدب المغربي، قديمه وحديثه. وألا تسقط من مضامين القصص بسقوط شروطها التاريخية (استقلال البلاد) – وكأن الوطنية مرتبطة بحال الحرب دون السلم. ولعل في ذلك استرجاعا للتاريخ كمرجعية غير معلنة في كتابات أحمد زيادي، وتأثيرها على خياره وفهمه الخاص للقصة القصيرة. إن التاريخ يصلح مادة ومرجعا للكتابة التخييلية عموما، في الرواية والقصة والمسرحية.

ب/ الطفولة: يعدها الكاتب مرتعا خصبا لزرع القيم، فالطفولة ترادف البراءة، وترادف الفطرة حيث الإنسان صفحة بيضاء يمكنك أن تنقش عليها ما تشاء، وبالتالي فالغايات البعيدة لا تتحقق إلا من خلال الوعي السليم والبذور الصالحة. وكأن أحمد زيادي يبحث في قصصه في مفهوم "المواطن الصالح" ببعديه "الديني والسياسي" التربويين. ومن ثم توجه الكاتب إلى كتابة الأطفال. والانغماس في فضاءاتهم التي لا تنتسب إلى العالم الضاج الصاخب، عالم الكبار، حيث الصراع على أشده والمعارك حامية الوطيس. لذلك أيضا تجنح قصص أحمد زيادي إلى رومانسية (طبيعية) تحلم بالإنسان الكامل. إن المضامين بدورها تحدد بعدا من أبعاد مفهوم أحمد زيادي للقصة القصيرة. كما تحدد بعضا من أبعاده الوظائف الاجتماعية للقصة.

إذا كانت القصص تجنح جهة الوطنية والطفولة فإنها لا تغفل عالم الكبار حيث تتبارز القوى من أجل المواقع، وحيث تتبدل القيم الجميلة بقيم غير معلنة لكنها سائدة في الخفاء، كما يسري الماء في عروق الجذوع. ولا تغفل قصص أحمد زيادي سلطة المال، عندما تفقد كل حدودها وتطفو على كل القيم. إن صراع أحمد زيادي ووعيه محصوران في صراع قيم الخير والشر بكل مظاهرهما.

3.1/ اللغة المسكوكة :

تتمثل قوة إبداع أحمد زيادي وفدته وتميزه في لغته المسكوكة النقية التي لا تشوبها شائبة.

أ/ إنها لغة تنتسب إلى مرحلة ما قبل السبعينيات، عندما كانت اللغة نقطة صراع، ومركز دفاع عن الهوية في مواجهة لغة دخيلة، أي أن لغة القرآن الكريم في مواجهة لغة المستعمر المحتل. إذا فهي لغة امتداد لا تتنافى وخيار أحمد زيادي ومفهومه الخاص للقصة القصيرة. ولا تتنافى مع موضوعة الوطنية أو موضوعة الطفولة، ولا مع الغايات التي يحددها الكاتب. إنها تتكامل مع عالم وفضاء أحمد زيادي.

ب/ إنها لغة تتحاشى استعمال الألفاظ الدارجة قدر الإمكان. وتخلص للغة العربية الفصيحة. ويتجلى ذلك في اختياره لألفاظه، وأساليبه التي تتصادى في ثناياها أساليب عربية مسكوكة شائعة الاستعمال.

ج/ إنها لغة مشحونة بأطياف المضي، وبألفاظ وأساليب متون الأمهات. وتمتد سطوة اللغة على الكاتب حد الخروج بالنثر إلى الشعر، أعني شعرا خارج البحور داخل الإيقاعات اللفظية، الجناس الصوتي، حيث يسعى الكاتب في البحث عن ألفاظ تتجانس صوتا في أواخر الجمل (السجع). ونقدم مثالا هذا النموذج من قصة (شجرة الكلام) :

"...

فإذا المقاليع تترصده

وإذا الفخاخ تتصيده

وإذا الأقفاص تتوعده

ويتدبر فيتحير،

ففي منقاره حتفه

فأين المفر ؟

يا طائرا عشه نفضة

وسماؤه قبضة

وحياته نبضة...". ص. ص (55.54).

ثم يمكن النظر في الورقة الملحقة بالمجموعة القصصية "خرائط بلا بحر" التي يفتتحها بما يلي :

"يا مبحرا في لجة التيه

انشر خرائط الأنواء،،،"

4.1/ خط الكتابة :

أحمد زيادي قاص مغربي يثابر من أجل ترسيخ خط خاص في الكتابة القصصية، يتخذ منبعا له فترة الحماية الفرنسية على المغرب، فترة نشوء حركة المقاومة والتحرير، حيث علا صوت الوطن على كل صوت. وانتفت الذاتبة والمصلحة الخاصة، وطفا إلى السطح مفهوم الإيثار، ومفهوم الإخلاص، ومفهوم الوحدة. كما انتفت الصراعات الفئوية والعرقية. وقد صاحب ذلك خصوصية في تحديد مفهوم القصة القصيرة ومكوناتها. وأهم مكون المضمون (الثيمة)، واللغة معجما وأسلوبا. لكن ونحن في بداية قرن جديد حيث فقدت البوصلة اتجاهها، وكأنها وضعت قلب منطقة مغنطيسية، فاختل اتجاه الإبرة، ولم يعد للقصة القصيرة شمال واحد بل شمال متعدد. نطرح مرة أخرى قضية الاستمرار ؛ هل القصة المغربية تتطور عبر خطية متسلسلة أو عبر محطات متقطعة ؟؟

2/ مستويات الحس الشعري :

1.2/ الأنا الحيرانة :

لقد شددت نظرية الأجناس على التمايز بين أشكال وأنماط التعبير (الكتابة)، ووضعت لذلك حدودا فاصلة معروفة. إلا أن الكاتب، شاعرا كان أو قصاصا أو روائيا أو كاتب مسرحيات، لا يتقيد بتلك الفواصل في عصرنا. حيث تتداخل كل القيم وتتعايش كل الأحاسيس والمواقف والأمكنة. حيث الاختلاط سيد المرحلة، والهجنة سمتها. ومن تلك السمات (اندياح الأنا). حيث تصبح الأنا والمشاعر الخاصة كالدوحة العظيمة تنشر ظلها الوارف على عراء الأرض وقيض الشمس، ولهث الإنسان، وتفصد الأبدان.

في قصة "خرائط بلا بحر" التي تحمل المجموعة عنوانها، تتجلى هذه الخاصية. يتوجه الكلام من الذات إلى الذات في صورة مناجاة نفسية، وتبدأ خاصة باغتراب وتحيز الأنا بين مكانين؛ بين مسقط الرأس ومرتع الصبا، وبين مقر الإقامة والعمل،، بين القرية والدار البيضاء. وتنتهي عامة فتشمل حاضر وماضي البلاد فيما بين الحماية والاستقلال.

لاندياح الأنا ملامح وخصائص في النص الأدبي كسيادة الحس الدرامي الفاجع وتقمص الشخصية (الأنا) صورة الزعيم فيتحول القصاص (الكاتب الخارجي والأنا السارد) إلى شاعر، لا يكتب الشعر لكنه ينثر مشاعره وأحاسيسه الجياشة حيث يصبح زعيما ونبيا مخلصا، لكن زعيما دون جيوش أو جماعة، ونبيا غريبا كصالح في قومه. والقصاص أحمد زيادي مثل لهذه الظاهرة الإبداعية في "خرائط بلا بحر- القصة" وتتقمص (أناه) ثلاث حالات مختلفة ومتكاملة :

أ/ الأنا المعذبة

ب/ الأنا الوحيدة

ج/ الأنا الرحالة

1.1/ الأنا المعذبة :

يقول القصاص:" وأنا المعذب بالذكرى والأمل، مشدود إليك كانشدادي إلى سيدي (الغليمي) وسيدي (أبي الليوث)، وما بين الطفولة والشيخوخة شعوب وقبائل، وما بين المدينة القديمة والمدينة الجديدة وطني...". ص (26).

تعتمد الأنا في تصعيد إحساسها بالفاجعة وبالألم على الوقوف فيما بين عناصر متناقضة ومتضادة نستخرجها كما يلي :

1-    سيدي الغليمي سيدي أبو الليوث

2-    الطفولة الشيخوخة

3-    المدينة القديمة المدينة الجديدة

إن الأنا - ضمير المتكلم – وهي تتذكر تكون قد وقعت في لحظة درامية وملحمية في آن. لأنها تكون واقعة بين زمانين؛ زمن الحاضر ، حضور الذات الفعلي المشروط بلحظة الزمان والإقامة في المكان. وزمن الغياب، زمن تراجع بالقوة ولم يبق منه إلا الأثر. إن لحظة الفاجعة، مصدر الإبداع، تتمثل بقوة في صراع الأنا في بحثها عن نقطة توحد بين لحظتين مختلفتين، (لحظة كانت فعلا) زمن الطفولة مثلا، وبين (لحظة مسترجعة، ذكرى). أي أن الإحساس الدرامي (الشعري والشعوري) يتولد آن الكتابة بضمير المتكلم، ولحظة تورط الذات في الأثر، في النسيج النصي، وهذا التورط انعكاس للصراع المرير والأبدي بين الواقعة الحية والإبداع النصي المتخيل. فالثنائيات المتضادة والمتناقضة المحددة في المجتزأ تفز لدى الأنا الكاتبة إحساسا قويا وفاجعا بالوحدة.

2.1/ الأنا الوحيدة :

الأنا الوحيدة يسيطر عليها إحساس رهيب أشد وطأة من إحساس (الأنا المعزولة)، لأن العزل الجسدي يعني النفي والإبعاد، لكن الوحدة تعني الإهمال دون إقصاء أو عزل جسدي. إنها مضاعفة النفي، مضاعفة الإحساس باللا جدوى. يقول أحمد زيادي :" وأظل وحدي أجمع مزق الوطن، أوحد الزمان في الأمكنة، وأدخل المكان في الأزمنة". ص (27). هنا بالذات تتجلى صورة المبدع المخلص أو الزعيم الذي يمتطي (قصة) ويخوض حروبا دون كيخوتية، وعندما يلتفت خلفه لا يرى إلا العدم والصمت، فيبكي بكاء الثكلى. يقول في نص (أعراف الحرائق) :" وإن عيني لتطرف، فألفي مناجل الموت تحصد شتائل آمالي، وأوهامي، فأتماسك، وأتصدى، وأضرب. وإني لأمضي فأجد دمي مسفوحا في جرح قرني، وإني لتجتاحني اللوعة، فأبكي بعينيه. ويتألم بكبدي، وإنه ليرمي القذيفة قذيفة فتحلق في الأجواء حمامة، ورحى الحرب ماضية في الطحن والابتلاع،وإني لأستحضر التاريخ فأنكر خوذتي، وإني لألبي نداء الوطن في نفسي، وأمتلك أرضه وسماءه وباطنه وبحره وبره وجبله وسهله وصحراءه، وحاراته ومقابره، وإني لأنتشي، وتتألق التيجان فوق جبيني، وتنضر الأكاليل فوق رأسي، ثم إني لأفتقد أبطالي، فلا أجد غير الأشلاء، ثم إني لأنشر بين يدي خرائط الوطن المترامي الأطراف، فلا أجد غير مقبرة كبيرة تعج بالموتى والمفقودين واليتامى والأرامل والفقراء، فأبكي بكاء الثكالى، وأدرك بعد فوات الأوان، أن عدوي في المعارك المفترسة، لم يكن إلا فزاعة وهمية. وأن المعركة كانت خاسرة، لأنها كانت خارج نفسي". ص (49).

وأقول "خارج الزمان" حيث الأنا تعيش غربتها القصوى، تعيش في العراء، ولا عزاء. تبدل القيم، أي تعدد الأنوات. إن لحظة الكتابة لحظة درامية، ولحظة الانخراط في الذاكرة والخوض في مياهها تطويح بالأنا في أزمنة الغربة، أزمنة الاغتراب. فالكاتب وقد تورطت أناه في الكتابة، يتملكه إحساس بالوحدة، وبأنه عار أمام الوطن (للوطن هنا دلالات عدة) يخاف عليه كما تخاف الأم على وليدها. يحضنه ويحارب من أجله، لكن بلا جيوش وبسيوف خشبية، فلا قوة تقهر الزمان، لا قوة تقف أمام التاريخ، أمام التحول والتبدل.

إن الإحساس بالتحول يبعث في نفس الكاتب الإحساس بالفاجعة. فيصيح في الناس " لكم قصتكم ولي قصتي، لكم لغتكم ولي لغتي، لكم فرحكم ولي عزلتي ووحدتي". إنه إحساس الشاعر، الشاعر الذي يسكن القصاص، الشاعر الذي ينشر مشاعره الفياضة، وقد اتخذ موقعا حادا صعبا تتواجه فيه (الأنا) مع (الذاكرة والتاريخ والقيم).

وإحساس القصاص بالتحول، وشعوره بالوحدة يقوده إلى الاحتماء بالأصول حيث المياه الصافية في المنابع ولم تؤثر عليها/فيها عوادي الزمان.

3.1/ الأنا الرحالة :

أين المفر ؟

أين المخرج. وأنى اتجهت الذات ترى نكرانا وصدودا ؟

إلى أين المسير ؟

إن الأنا المعذبة والوحيدة هي أيضا أنا رحالة لا استقرار لها، تسير باتجاه صوتها الخاص الخالص. تحرق كل السفن وراءها، وتتجه صوب النبع. إنها تختار الاختيار الصعب، تعاكس التيار، تهرب إلى الغاب، كما هرب الشاعر، إذ يقول :

إنني ذاهب إلى الغـاب، علي

                             في صميم الغابات أدفن بؤسي

ثم أنساك ما استطعت، فما أنتَ

                             بأهل لخمـــــــرتي ولكأســـــي

   

أبو القاسم الشابي. الديوان. ص (249).

ليس الغاب إلا تعبيرا رمزيا على النبع حيث تنتفي كل الإكراهات الاجتماعية والسياسية والثقافية ولا يعلو إلا صوت الطبيعة الأولى التي جُبل عليها الإنسان والكائنات جميعا. إن الهروب دعوة إلى الفطرة، الحياة البريئة. يقول أحمد زيادي :" وهل تقوى سحابة تائهة على جمع ذرات رفاتي، لتعيدني إلى رحم المنبع، فأكون أول نهر ينبع من المصب...". ص (27).

ترحل الذات الكاتبة رحلتين؛ رحلة خاسرة باتجاه الأفق، تسير رفقة الزمان في تحولاته. ورحلة نكوصية وعمودية. وكأن الكاتب ذات تحن بلا كلل للعودة إلى رحم التكون. إنه إحساس ينتاب كل ذات قاست في صدامها اليومي والسيزيفي، وكل ذات أحست بالخسران، وكل ذات أعياها البحث عن قيم أجمل وأبهى في زمن أغبر أغبش. هذا الإحساس في قصص أحمد زيادي متولد عن الثنائيات المتناقضة والمتضادة التي أشرنا إليها سلفا. فالبحث عن الأصول يضيف إلى تلك الثنائيات تنويعة جديدة هي : النبع المصب.

ما يهمنا هنا هو كون القصاص أحمد زيادي يتحول إلى شاعر ينثر مشاعره الجياشة بصدق وحرارة، في أسلوب ومعجم ومعاني تفيض حبا وإخلاصا. وتعلن عن تشبث أكيد بالمبادئ التي حددها كمعايير لمعنى القصة القصيرة، ووظيفتها، وموضوعاتها، ولغتها. أما المستوى الثاني لإبراز شاعرية القصاص فيتمثل في البعد والمنجز اللغوي؛ معجما وأسلوبا ودلالة. أما المستوى الأول الذي وقفنا عنده فإنه يبرز فقط مستوى الإحساس الباطن والشعور الحي المهيمن على لذات لحظة الكتابة، تلك اللحظة (البينية) حيث الذات الكاتبة معلقة بين الداخل والخارج، بين الفعل والذكرى. يقول في أول جملة من النص :" ما بين الجنون والعقل قدر ما بين (سطات) و (برشيد)، وأنا أقف متحيرا، لا أدري في أي الطورين أعيش". ص (23).

2/ مستويات الشعر :

من نتائج اختلاط الأجناس الأدبية في الكتابات المعاصرة ظهور تجانس بين أنماط كتابية عدة، ومنها إتاحة الفرصة للذات وللصوت المنفرد والفردي بالإعلان عن نفسيهما. كما تداخل الشعري في النثر، وأصبحنا نرى نصوصا شعرية تقتحم مجالات كانت محصورة على النثر، بل اليوم طغى الصوت الشعري بعد أن تخلص الشعر ذاته من القيود التقليدية وأصبح الشعر نفسا دافقا يتسرب إلى الأفعال الكلامية،ويتخذ لنفسه صورا بلاغية عدة، كالحكي المتدفق، والسرد المتسارع الإيقاع. وتبني الذات الكاتبة الأفعال الكلامية،واحتلالها مكان الشخصية والتحدث عن نفسها في صيغة المناجاة أو التضرع أو التوجع والتفجع، أو البوح والاعتراف. وكل تلك الصيغ الكلامية تقود الكتابة نحو المناطق الحميمة حيث تنتفي المعايير الصارمة الفاصلة بين الأجناس الخالصة.

تتجلى هذه الحالة في الكتابة عند أحمد زيادي في ثلاثة مستويات نحددها كالتالي،ونقدم عنها نماذج :

*تدفق المشاعر

*السجع

*الأساليب

1.2/ تدفق المشاعر :

أنتقي قبل التعليق هذا المجتزأ من "خرائط بلا بحر"، يقول النص :" وما بين الأطلس والأطلسي همي، وما بين (أبي رقراق) و(أم الربيع) يتمي وتربيتي، وأرضي ومقبرة لجياد الطفولة، وأدفن عيوني تحت الطوب، تحت الحجر، فتنبئني كل ذرة، كل نسمة، كل ومضة عنك فأغمض عيني، فأرى أهداب الشمس تتمسك بغدائرك، ثم أراك ترتقين ترتقين، ثم أراك تسقطين مع آخر شعاع في اليم، ثم أراك وقد صرت جثة تتقاذفها الأمواج، ثم وقد صرت جزيرة في أجفان الملاحين،ثم وقد صرت صخرة تناطحها وعول البحر، فهل إلى لقائك من سبيل ؟ وزهيرات المراعي تتخطف ظلك وعيون القوم تنظم ذكراك لؤلؤا ملتهبا...". ص (26).

أول ما يعطي هذا المجتزأ بعده الشعري تدفق السرد فيه، فالقصاص يتحدث بحمية وحماس، ثم إن النص عبارة عن جملة سردية واحدة لا توقفها (النقط) للترقيم، بل هي عبارة عن سلسلة من الجملة السردية القصيرة التي تفصل بينها (فواصل) تحول إيقاع القراءة من قراءة متباطئة إلى قراءة متتالية متسارعة، الوفقات فيها قصار، ويساعد على انتظام ونظام التدفق الشعوري توازي بعض الجمل أو تكرار بعض أجزائها، (تحت الطوب، تحت الحجر، وكل ذرة، كل نسمة...). لا يتوقف السرد/ الدفق الشعوري إلا عند السؤال الذي جاء دالا على التفجع، لأن اللقاء مستحيل. أ لم يبن الشاعر العربي القديم دفقه الشعري على لحظات البين والجفاء وتقطيع العهود ؟

2.2/ السجع :

يقول ابن الأثير في تعريف السجع :" وحده أن يقال، تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد". ص (210). ليس هذا فحسب بل يقيد السجع في قوله :" ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حارة طنانة رنانة، لا غثة باردة...". ص (211). ويزيد ويفصل، ونحن - هنا – لا يهمنا الوقوف عند كل ذلك بل نكتفي بما يفيد في إبراز هذه الظاهرة اللفظية كمستوى من مستويات الشعر المنثور أو ولوج الشعر في النثر، من خلال التجانس الصوتي، كما أوضحنا فيما قبل من نص "شجرة الكلام". وكما ألمحنا أيضا في العنصر السابق "تدفق المشاعر" إلى قصر الجمل السردية وتوازيها في التقطيع أو اعتمادها لازمة واحدة (كل ذرة، كل نسمة)، ويورد ما يشبه السجع بين الحين والآخر حتى لا يصبح النص مسجوعا على غرار القصص التي تمثلت المقامة في بعض الجمل السردية كالتالي :" وكيف أنستكم الدواسة الركاب، فأصبحتم، وأنتم سادة الرقاب، تتمرغون في أخلاط التراب...". ص. ص (27.26). ومثل هذا واضح جلي في المجموعة.

3.2/ الأساليب :

نود أن نشير فقط إلى أسلوب لغوي واحد يتحول عند التدفق السردي، وعند تصعيد حالة الفقد إلى نوع من التفجع والتوجع. وهو أسلوب الاستفهام. فالقصاص في غمرة الحماس الشعري والشعوري يولد الأسئلة تلو الأسئلة، ولا ينتظر جوابا، ولا يتوقف ليوضح أو ليجيب. فالسؤال صيغة وتكيب لغوي لكن من حيث الغاية والقصد تدفق سردي، وتجميع للمشاعر الجياشة. والسؤال هنا ليس حالة وعي بقدر ما هو حالة تفجير اللاوعي، ومحاولة لتجاوز المقاومة التي تفرض على الكلمات. إنه انفجار كلامي يحفر في عمق التربة المتكلسة ليخصبها حتى تطلع لعاعاتها وتزهر وتثمر. ونص "خرائط بلا بحر" ينتهي بسؤال جاء نتيجة ثورة عارمة تطيح بالفساد ورؤوسه السبعة وتنشل يد القصاص المخلص الروح والوطن والمدينة من "بين رفات الجبناء" ويعمي السؤال النص ويلغزه، يقول :" فإذا أنت حية ميتة، وإذا أنت أنت وغيرك، فمن تكونين بل من أكون أنا ؟". ص (27).

إنها العودة دائما إلى الإحساس بالوحدة والاغتراب.

3/ مادة القصة :

1.3/ تعتمد قصص أحمد زيادي على تنوع مادة الاشتغال وإن كانت قصصه تعتمد على وحدة المقصد والغاية، وتسعى اللغة المسكوكة إلى إضفاء طابع الانسجام والتناغم على تنوع المواد الحكائية. وتلعب المواضيع الثيمات الدور ذاته في تصنيف أحمد زيادي ضمن التيار المحافظ على الامتداد الأصيل للخط الأول للقصة المغربية بعد الاستقلال، وتخلصها من التبعية الأجناسية، ومن سطوة الوعي الإبداعي التقليدي. وممن أخلصوا لهذا التيار القصصي وأسسوا له أورد عبد المجيد بن جلون، ومحمد زنيبر، وعبد الكريم غلاب، وعبد الجبار السحيمي، واخناثة بنونة...وتتصادى في أعمالهم موضوعات الوطن والحماية، والصدى الأخلاقي، وتصارع القيم. لكن قصص أحمد زيادي تنفرد بالروح المرحة وخفة الدم إلى جانب الحس الدرامي الذي يتولد عن صراع القيم، واختلاف الحنين إلى القرية وزمانها البسيط المتناغم عن زمان المدينة السريع المبتذل. وتبقى اللغة الفصيحة قاسما مشتركا بينهم وموضوعة الوطن وصدى التاريخ، والعيش في زمن الحماية وحركة المقاومة. إنه تيار يمتد في الزمان القصصي المغربي.

2.3/ أقتصر هنا على تحديد المادة القصصية في مجموعة "خرائط بلا بحر" :

الواقعة التاريخية : تعتبر كل قضية وطنية ذات صدى تاريخي متصلة بالحماية والإصلاح قضية تاريخية ويمكن تلمس هذه المادة في قصة (خرائط بلا بحر) وقصة (أعراف الحرائق).

الحادثة الشعبية : حيث يستثمر أحمد زيادي مخزونه الثقافي الشعبي، سواء تعلق الأمر بالأغنية الشعبية (العيطة) في قصة (عويدة والبارود) أو تعلق الأمر بالطقوس والعادات والتقاليد الشعبية كزيارة الأولياء والتمسح بالأضرحة وطلب البركة في قصة (زيارة).

النكتة : وهي جزء من الحادثة الشعبية إلا أنها تضفي على قصص أحمد زيادي نكهة خاصة يمتاز بها، يوظفها في نسيج النص ويحورها حتى تصبح أدبا. ومن القصص التي تعتمد على مادة النكتة – قصتها – (لعبة التحول) وقصة (صورة) وقصة (القرار). وتجب الإشارة إلى أن القصاص أحمد زيادي عندما يوظف النكتة أو الحادثة الشعبية فإنه يعمد إلى انتقادها أو هدم بنائها، ولا يعمد إلى تكريسها. إنها التفاتة منه إلى أشكال الوعي التي تشد الإنسان إلى القاع وتقيده وتمنعه من التطور.

المشاهد الخارجية : أحمد زيادي قصاص يوظف الوصف بشكل جيد في قصصه. وإذا كنا اعتمدنا في تحليلاتنا السابقة على السرد المتدفق لإبراز شعرية اللغة والمضامين وصيغ الحكي، فإننا لا ننفي كون القصاص وصافا جيدا لسلوك الشخصيات القصصية، وللطبيعة القروية والحياة في المدينة. ولا تخلو قصة من الوصف. ويكثر الوصف كلما حن إلى البادية أو قارن بين طفولته وكهولته، بين القرية والمدينة، بين (الزمامرة) و(الدار البيضاء). وتقدم هذه الموضوعة في قصتي (خرائط بلا بحر) و (صورة).

القضايا الإنسانية والبراءة الأولى : يستفيد القصاص هنا من (الطفولة) كرمز للبراءة خارج الإكراهات الثقافية والسياسية والاجتماعية...فالطفل لا يستجيب إلا لما تمليه عليه رغباته. وكل الأشياء تتحول بين أنامله وفي مخيلته إلى عصافير طليقة. ونختار هنا قصة (شجرة الكلام) وقصة (حكاية العصافير الطليقة). وتتجلى القضايا الإنسانية الغاصة بالشفقة والرقة والآلام في تصوير شخصية (زهرة) كرمز لتحطم العواطف السامية، وعدم قدرتها على الصمد أمام صخرة الواقع، وسطوة الأعراف والعادات والتقاليد في قصة (حوافر وأقدام).

قضايا عربية : تهيمن على قصص أحمد زيادي قضايا الوطن قديمه وحديثه. إلا أنه لا يغفل قضايا العروبة، وبها يفتتح مجموعته القصصية "خرائط بلا بحر" في قصة (عبد الله يخلع عقاله) حيث تحيل المعينات والقرائن اللسانية على منطقة الخليج العربي، والثورة التي أحدثها اكتشاف الذهب الأسود في العمارة والإنسان والقيم.

قضايا سياسية : إذا كانت القضايا السياسية مبثوثة في ثنايا الموضوعات الأخرى إيحاء وتلميحا فإن قصة (المنشور) تحاول التركيز على حالة المطاردة والملاحقة وما تخلفانه من توتر واضطراب في نفس الملاحق، وما تبثه من فزع واضطهاد في نفس الملاحَق.

3/ هذه بعض المواد التي تتأسس عليها قصص أحمد زيادي، وتعتمدها في تحقيق مقاصدها وأهدافها العليا. وبها نكون أمام قصاص تتصف تجربته بالتكامل والوضوح. ويمكن اعتمادها – التجربة – لرصد استمرارية وخط تطور القصة القصيرة بالمغرب منذ استقلالها إلى اليوم –بداية الألفية الثالثة. وفي هذا الرصد نستخلص لحظات تحول القصة القصيرة المغربية، ونتلمس المكونات الأساسية التي أصيبت باهتزاز، كاللغة والمضامين والموضوعات والمقاصد. فالقصة اليوم فقدت انسجامها واهتزت بنيتها الداخلية (تراكيب النص)، ولغتها ومضامينها ومقاصدها، بفعل الزمان وتقلب الأحوال وتبدل القيم، واتساع الوعي الجمالي وتعدد المرجعيات والوسائط.

إشارات :

1/ خرائط بلا بحر. أحمد زيادي. قصص. مطبعة السعادة. الدار البيضاء. ط1. 1994م.

2/ المثل السائر. ابن الأثير. دار نهضة مصر. دون تاريخ.

3/ الديوان. أبو القاسم الشابي. دار العودة. 1986م.

4/ الاستشهادات مجتزأة من مجموعة خرائط بلا بحر . مصدر مذكور.

يتبع........

Posté par motassim à 08:54 - كتاب/ القصة القصيرة (70) في المغرب - Commentaires [0] - Rétroliens [0] - Permalien [#]

02 novembre 2007

القصة القصيرة المغربية. 9

نسخ النص ومسخ الشخصيات عند محمد غرناط.

استثمار الموروث.

   1/ تتأسس الكتابة على كتابات سابقة عليها، لكن بمستويات مختلفة. فبعضهم ينسخ القول السابق وقد ينسبه إلى قائله وقد يهمل تلك الإحالة. ومع ذلك يكون سارقا كما قال نقاد الشعر القدماء. وهناك من يُسْقطُ التركيب واللفظ ويبقي على المعنى ويسمى ذلك تضمينا قد يصل إليه ذهن القارئ وقد لا يدركه. وهو الغالب في الإبداعات الشعرية والقصصية (الرواية والقصة القصيرة).

   وإذا عاب الناقد القديم على المبدع أخذ معاني غيره من المبدعين، فإن الناقد الحديث "رخص" للمبدع البناء على نصوص وأقوال سابقيه. وهذا ليس عيبا إذا ما وجد المبدع الحق الذي يذهب بالقول السابق إلى حدوده القصوى. فيشتغل على مستويين معا للقول فيغير في التركيب وفي الدلالة.

   ونرى اليوم في الكتابات الروائية والقصصية وحتى الشعرية عدم تحرج الكاتب من إقحام بعض الأقوال دون التأشير عليها أو الإحالة على مراجعها وأصحابها المبتكرين. وهنا يكمن الخطأ والخطر في آن واحد. لأن الكتابة تعني تحويلها وتغيرها كليا. وليس العكس. أي محو القول السابق لدلالة وعمق القول اللاحق. ومفهوم التناص أو تداخل النصوص في هذه الحالة يعني محو القول اللاحق لدلالة وتركيب القول السابق في الإبداع. لأن ظروف إنتاج القول السابق تختلف حتما عن ظروف إنتاج القول اللاحق.

   2/ في بعض الكتابات نجد المؤلف المبدع يتعامل مع الإنتاج السابق والمقروء السابق تعاملا مبدعا وذكيا. حتى لا نكاد نلاحظه. وفي بعض الكتابات الأخرى التي توظف الموروث والمقروء توظيفا جماليا ودلاليا، نجدها قد أدركت الغاية من مفهوم التناص ومفهوم التداخل النصي ومعمارية النصوص. كما تم تحديدها في الدراسات النقدية الغربية والشرقية عند ميخائيل باخثين، وجوليا كريستيفا، وتزيفطان تودوروف، وجيرار جنيت. وإن اختلفت منطلقات كل واحد منهم وكذلك مقاصدهم.

   لكن نجد من يوظف مخزون الذاكرة أيضا. أي كل المحكيات الشفوية المتواترة والمتداولة على ألسنة الناس. وبالتالي يخصب الذاكرة القارئة؛ ذاكرة المتلقين المتشبعين بهذا النوع أو ذاك الموظف في النص من الثقافات الشعبية الشفوية. ونجد كذلك من يوظف فقط أسماء الأماكن والشخصيات التاريخية والشعبية والبطولية. وهنا نجد أمامنا الإشكاليات ذاتها: التوظيف الفاعل، والتوظيف المهدم والمسطِّح للقول.

   3/ في مجموعة محمد غرناط الثالثة "داء الذئب" نجده يوظف الموروث الثقافي ومخزون الذاكرة والأسماء التاريخية والأدبية والمتخيلة المبتدَعَة توظيفا جميلا. أعني توظيفا فاعلا.

   والتوظيف الفاعل لا يعني ذكر الأسماء والأماكن أو مخزون وموروث ثقافي لأمة ما فقط من أجل إبراز ثقافة المبدع. بل الغاية منه خلق بناءات متوازية، ودلالات متقابلة، تجعل القول المحكي مضاعفا. كما ننظر إلى المرآة فتفاجئنا وجوهنا إلى حد السؤال عن الجوهري والعرضي، عن الوجه الحقيقي والوجه المزيف. والسؤال عن الوجه المادي الملموس والضوء الخادع. لذلك نجد القاص في إحدى قصص المجموعة يصرخ في الشخصية القصصية (بقوة وغضب وعنف) أن تنظر إلى وجهها الحقيقي. وكأن الألفة التي تربطنا بوجوهنا المزيفة الخادعة (خدعة الضوء) أصبحت سلطتها لا تقاوم. وأن إغفالنا لوجوهنا الحقيقية خفف عنا هم السؤال. والسؤال وعي باللحظة المتحدث فيها وعنها. وعي بما يحدث في المكان وأبعاده. وعي تام بالمتحدِّثِ. كذاتٍ متحدِّثَةٍ وكموضوع متحدَّثٍ عنه. ولعل مواضعات المجتمع سارت بالإدراك جهة الوعي بالظاهر وبالمزيف وتغييب الجوهري أو الحقيقي في نسبيته الحسية...

   يقول النص:" ها هو وجهك. أخيرا ها أنت تراه بدون توقع. ثابت كنجم صغير مضيء. صاف. وديع. باسم. يناديك كما يناديك ابنك "كبوت". فتقدم نحوه. اضبط خطواتك ونبضات قلبك. رتب أنفاسك وتقدم. خذه بيدك وضعه بحكمتك المعهودة بمكانه لماذا أنت خائف؟ مضطرب؟ تسكنك حيرة شنيعة، ويغطي عينيك سحاب دنيء. شق عليك أن ترى ما حولك. وتتخيل أن شيئا ما رهيبا قد حدث. هو الآن أمامك يطفح بقدر كبير من المرح والخفة. لم يخترق كما قيل لك. فمد يديك نحوه وتقدم بنصف بصرك لتأخذ النصف الآخر وتعيده إلى مكانه. افعل. لا تتردد لا تخف. لا ترتبك. اضبط نفسك وتقدم". (قصة الوجه. ص 85).

   إن القول الموظف توظيفا فاعلا وإيجابيا في العمل الإبداعي يجعل الدلالة مضاعفة تماما كما هو الحال بالنسبة للوجه وانعكاسه على المرآة. وقد لا نهتم كثيرا لأيهما الجوهر وأيهما العرض. لأن الجوهري والعرضي وجهان لعملة واحدة. فقط ينبغي أن تكون العملة سليمة غير مزيفة. وأن يكون المبدع فنانا حقيقيا، وصانعا ماهرا، دَرِبا ومحترفا. يصوغ من الألفاظ والتراكيب والمعاني المستعملة حِليا لها سلطة الخداع الجميل. لأن العين والأذن وباقي الحواس يلذُّ لها الخداع. وتجد فيه متعة وغرابة سعيدة.

   4/ يستند القاص محمد غرناط في قصصه الأولى من المجموعة على الموروث وعلى مخزون الذاكرة الثقافية من أسماء شعراء عرب ومفسرين ومؤرخين، ومن شخصيات ولدتها الذاكرة والمخيلة الشعرية والإبداعية. مثل: عروة بن الورد، والشنفرى، وهما من الشعراء الصعاليك، أغربة العرب الذين اضطهدتهم قبائلهم أو ثاروا على الأعراف السائدة. وهم شعراء إلى جانب أنهم فرسان ولصوص ولهم رؤيتهم الخاصة إلى العالم من حولهم. ونجده يستعمل كذلك أسماء الشعراء العشاق، كصريع الوجد والحب قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى العامرية. كما يردُ ذكر الطبري وهو يفسر بداية الخلق وأيضا ابن ماء السماء.

   5/ فهل لهذا التوظيف الفاعل من دلالة في التركيب وبناء قصص محمد غرناط؟

   من خلال كتابة محمد غرناط يمكن استخلاص خاصيات يمكن تعميمها على الكتابات القصصية والشعرية التي توظف النصوص الموروثة ومخزون الذاكرة الثقافية والمكتوبة والشفاهية توظيفا جماليا ودلاليا متفاعلا. لهذا نجد الملامح التالية تبرز في مجموعة "داء الذئب"، خاصة القصص الأولى من العمل:

   = التفاعل والمشاركة.

   نرى أن توظيف المخزون الثقافي له وظيفة أساسية. وتتعلق بنمط العلاقة بين العمل وقارئه. فالمشكلة الأساسية التي (تحلُّها) أو (تقاربها) النصوص السابقة والأسماء (أسماء الشخصيات وأسماء الأماكن) المبثوثة في العمل هي إشراك القارئ في فكِّ رموز العمل، وإجلاء غوامضه، وفتح مستغلقاته. لأن أهم الأسباب التي تفشل العمل الأدبي غياب الصلة بين العمل وقارئه. خصوصا إذا ما كان القارئ متوسط الثقافة أو كانت ثقافته شفوية. وأظن أن هنا يكمن مشكل النصوص التجريبية التي تقوم على البوح أو تدفق معرفي مجرد. لا يهتم إلا باللغة في سيلانها وانهمار الذاكرة وتدفق المشاعر دون ربطها بأسباب أسلوبية وبنائية تحفل بها ذاكرات القارئين المختلفة والمتعددة.

   واستثمار المخزون الثقافي والذاكرة الشعبية والثقافة الشفوية لا يسلم من المثالب والمطبات. فإذا كان هذا التوظيف يساعد على تأثيث فضاء القراءة وبالتالي فضاء العمل الإبداعي. فإنه أيضا قد يجلب إلى العمل بعض القضايا الجانبية، كهيمنة الموروث على المبتدع الذي يدل أكثر على صاحبه (المؤلِّف). من هنا يأتي تركيزنا على أهمية التوظيف الفاعل والمتفاعل الذي يتأثر ويؤثر في النصوص السابقة.

   = المرآة، الدلالة المضاعفة.

   في هذا المستوى نكون بصدد متقابلتين بينهما مشترك يصل إلى المتلقي. وهي صورة موسعة وشاسعة للتشبيهات والاستعارات البلاغية التي تنبني على العلاقة الرابطة بين طرفين الأول مذكور أو موحى به والطرف الثاني مذكور بغاية إيضاح العلاقة وإضفاء بعض الصفات المقصودة من الربط والمشاركة.

   فإذا أردنا التمثيل الجزئي لهذه الحالة/الظاهرة الكتابية نجتزئ ما يلي من النص القصصي الأول من المجموعة وهو بعنوان "العداء". يقول النص:" غمرني إحساس غريب بالهلع، فتأبطت جرابي وتقدمت نحو ضوء يضطرب بعيدا في فراغ ليلي مغلق، كتمت خوفي، واندفعت بجلد عروة، وحركة الريح تملأني من كل الجهات". ص (5).

   بالنسبة لقصص مجموعة محمد غرناط "داء الذئب" فإنها تفرض علينا نمطا محددا من القراءة وهو التأويل للإشارات والعلامات اللغوية عوض التحليل الذي يشمل مستوى آخر أعم وأوسع وأقصد بناء القصص.

   وذكر اسم عروة بن الورد سيجعل النص مندرجا ضمن فضاء قرائي محدد. مرتبط بظروف وطريقة حياة الشاعر الصعلوك. المنحاز إلى الفقراء. وخصال "روبن هود" في المتخيل الشعبي الشفوي ومتخيل القارئ والمشاهد للأفلام الواسعة الانتشار اليوم. وسينعكس ذلك على الألفاظ المستعملة في الفقرة المجتزأة. سواء بالنسبة للقارئ أو المبدع. وبذلك تصبح لفظة "تأبطتُ جرابي" تحمل دلالات واضحة في الذاكرة. وهو فعل قام به شاعر صعلوك آخر له صلة قرابة بالشنفرى الشاعر الصعلوك أيضا، والذي سيرد ذكره في القصة ذاتها. يقول النص:" أنت في حي من أخطر أحياء العرب. بيوته مصقولة وليس فيها شائبة. وأنت إذا طلع عليك الصبح هنا جمعت ذباب الدنيا. وفي هذه الحالة تخرج من هنا كما خرج الشنفرى من قبيلة بني سلامان. هل تعرف الحكاية؟". ص (7).

   هذه الإحالات والألفاظ المزروعة في النص تحدد مسار التأويل والقراءة في آن واحد. و "تأبطتُ جِرابي" تحيل على الشاعر تأبط شرا. ويقال أنه تأبط سيفا وهو الشائع. كما يقال أنه تأبط جرابا به عدد من الأفاعي السامة.

   = شرح الحالة بالحالة.

   وفي النص الثاني المجتزَأ من القصة نفسها يرد ذكر "أحياء العرب" بذات العبارة المستعملة في كتب تاريخ الأدب وكتب الأخبار والتاريخ. وهو ما يؤكد على تقابل الفضاء القرائي والإبداعي لكل من المتلقي والمبدع.

   إذا فالمرآوية والدلالة المضاعفة في القصة تقدم للقارئ بناء متوازيا. يحكي عن عالمين واقعيين أو متخيلين، وهما: حياة الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي شعراء التمرد على نظام القبيلة الذي يلغي الاعتراف بأبناء الإماء ويقصي كل من لا يخضع لعرفه السائد وقانونه القائم على سند المال أو النسب. ونستثني هنا عنترة بن شداد الذي قبل الخضوع أولا لنظام القبيلة. أي قبل بتنكر والده له، وقبل بالعبودية إلى أن تقوى وأحب فثار على القبيلة وإخضاعها لرغبته وسلطته. وهذه طريقة "طاكتيكية" أخرى مغايرة في مواجهة نظام القبيلة. وحياة الإنسان المعاصر المضطهد في عيشه وحياته. والدائم البحث عن شيء ما ضاع منه. كما بحث الملك الضليل "امرؤ القيس" عن ملك أبيه فلاقى حتفه، وأكسبته الرحلة شعرا خلده. يقول النص:" فأنا أبحث عن حق ضاع مني منذ زمن طويل". ص (6).

   وإذا كان امرؤ القيس قد جنى من بحثه عن ملك أبيه: الموت. وإذا كان المثل السائر يقول:" ما ضاع حق وراءه طالب" فإن الشخصية القصصية في النص الأول من المجموعة ستقضي ردحا من الزمان في الانتظار، انتظار تحقيق أمل الحصول على الإرث المفقود/المسلوب. يقول النص:" تتالت الأزمنة بملل، وفي كل مرة يرتفع وجه علاء، ويردد وعده. ووجهه يشمخ شيئا فشيئا نحو السماء إلى أن اختفى، ولم يعدْ يسمع إلا صوته يأتي من موضع شاهق يملأ الساحة المكتظة. وكنا مثل النمل نجتمع لنتفرق، ثم نجتمع لنتفرق ... غير أن رؤوسنا تزداد كل يوم ضخامة، وعيوننا تزداد صفرة". ص (12). أ ليست بداية للتحول والمسخ؟ ضخامة الرأس واصفرار العيون؟!

   6/ هذه المستويات الثلاثة من توظيف الموروث الثقافي والمخزون الشفوي متداخلة مع بعضها. وما تفصيلنا لها إلا بغاية الزيادة في التوضيح. وبغاية إبراز اختلاف توظيفاتها في نصوص قصصية وشعرية مختلفة.

المسخ؛ موضوعة مركزية.

   1/ عُرِفَ المسخ في كتابات إبداعية ونقدية كثيرة، لدى العرب ولدى الغربيين. وقد مورس على مستويين بارزين. جاء المسخ في السياق الأول عرضا ولم يكن مقصودا لذاته، ولا مفكرا فيه. لذلك اهتمت به الحكايات الشعبية وقرنته بالفكاهة وباللعنة الإلهية وبالسحر الأسود طمعا في شيء أو غيرة من أحد (مثلا أسطورة أركني) والمسخ هنا لا يختلف عن المعنى الذي يتم تناوله في جميع الإبداعات. فهو تحول فيزيونومي [جسماني] يخرج بالإنسان من صورته الأصلية الآدمية إلى صورة أخرى حيوانية أدنى.

   وقد جاء المسخ في السياق الثاني جوهريا، وموضوعا مقصودا لذاته، وموضوعة خصبة للدلالة على الضغوط الاجتماعية والنفسية للفرد في الوقت الراهن. فالإنسان في وقتنا الحالي، وأمام تقدم الآلة والتقنية وخطر التسلح، أصبح أكثر تقزما واضطرابا، وفاعليته تناقضت. وأهميته تراجعت إلى الحد الذي تساوى فيه مع الحيوان في بدائيته وبذاءته.

   وقد عبَّرَ عن هذه الحالة، وممن اشتهروا بها، (سارتر) في رواياته ذات البعد الفلسفي العابث والساخر. وروايات (كامو) التي تسلبُ الأفراد "الورقيين" إراداتهم. إلا أن (كافكا) يبقى النموذج الأصل لهذا المسخ المرتبط بالضغوط النفسية والاجتماعية. لقد وظف كافكا مفهوم التحول الفيزيونومي كما هو حال الضفادع والدودة الحريرية. [وأفضلُ أن نستعمل المسخ لأن الأمر لا يتعلق بتحول بنيوي في جسم الإنسان بل يقصد منه التحول القيمي الذي يسقط بالإنسان إلى المدارك السفلى].

   وشخصيات كافكا الروائية قلقة ومرعوبة تعيش في كوابيس لا تنتهي في الحلم والواقع الروائيين. وفي هذا التداخل ما يفسر اضطراب الزمن، واضطراب النفسية المتمثلة للوقائع، والعاجزة عن ضبط صورتها (الحقيقية) والتحكم في مجال حدوثها؛ أ هو الواقع المعاش بحركته وصخبه وعنفه أم هو الحلم المنساب حينا أو المتقطع أو المضطرب والمرعب أحيانا أخرى!؟

   2/ والقصة المغربية القصيرة عرفت بدورها مسوخا متنوعة. اختلف فيها الدافع والمقصد. وأذكر هنا بعض الأعمال التي احتفت بذلك. وأول من يتبادر إلى الذهن القاص المغربي "إدريس الخوري" الذي وظف المسخ كقيمة جمالية وكموضوعة. واستعمله بمعنيين: الأول فصيح ولا يخرج عن تعريفات المبدعين. أي تحول الإنسان إلى كائن بدائي، إلى حيوان. كتحول الإنسان إلى قرد في قصة "مثل وجه، مثل كل الوجوه" من مجموعته "مدينة التراب". وإن كان القرد أقرب إلى الإنسان عندما يتم الحديث عن المسوخ.

   أما الاستعمال الثاني ومتداول في اللهجات، وهو "لمْسَخْ" (التعبير دارج) بمعنى تبدل الأحوال والقيم الأخلاقية.

   وممن استعمل المسخ كموضوعة مكملة أو موضوعة متسربة في أعضاء قصصه، القاص أحمد بوزفور. ويظهر ذلك على مستوى الكتابة وبناء النص واللغة وحالات الشخصيات القصصية. ولذلك فالكتابة عنده قريبة من (كامو) بعيدة عن (سارتر) في هذا المقام. لأن الشخصية تبدو في بعض الأحيان مسلوبة الإرادة مستسلمة للنحر عابثة بما يقع لها أو يقع للآخرين. فهي حاضرة غائبة، وغير عابئة بما يحدث. إذ هي كتابة تهتم بالمسوخ الداخلية وبما يستشعره الإنسان تحاه نفسه والآخرين في وحدته وعزلته.

   في مجموعة "صياد النعام" نجد قصتين هامتين: الأولى بعنوان "سرنمة" وهي نحتٌ للتركيب التالي" السير نوما". والثانية بعنوان "ماء". والقصتان معا تبرزان حياد الشخصية القصصية. تلك التي لا تهتم لما يحدث لها أو يحدث للآخرين في الحياة. ويبدو الوجود بأسره أمامها ثقيلا وزائدا عن الحاجة، ويجب التخلص منه ولو حتى بتجاهله (أضعف الإيمان). فهل هي حالة يأس كافكوية؟ هل هي حالة استلاب الإرادة؟ قد يكون الجوابان معا متضمنين لفحوى الكتابة القصصية ورؤية القاص للعالم. 

   يقول نص سرنمة:" كان العرس في القمة: مجموعة من الشباب تغني، وأصوات الشيخات تخترق الجو من بعيد [...] وبدأ الحديث عني ... [يضيف] أما أنا فتسرنمتُ: دوخني الضوء والحرارة واللغط، فسرت دون شعور، دون حركة، دون صوت". ص (32/ 33). أما في نص ماء فيقول:" ذهني كالماء، لا يستقر. وما أن يجد من الواقع الحاضر مسربا حتى يسيح في الأحلام". ص (73). ويضيف القاص مصعدا حالة الشخصية القصصية وواصفا مناخ الطاكسي الشبيه بحفلة العرس في النص السالف؛ ضجيج وصخب وحركة سريعة ولا أحد يهتم لأحد. ونقرأ:" وانحشرتُ بين الركاب، أسرة من الضجيج والصخب والحركة والغوات، الأب والأم لا بد أنهما الأب والأم اثنان. أما الأطفال فلم أستطع عدهم. كلهم صغار: بين رضيع لا يكف عن الصياح، وأطفال السنتين والأربع أو الخمس سنوات. وكل طفل يتعدد، بلسانه النشط وإغفاءته الحرة المقتحمة، فيصبح وحده عدة أطفال. وأنا قابع في هامشي الضيق أحاول إعمال أذني بفتح عيني على محكمة الاستئناف في الخارج، لولا أنها تسرع إلى الوراء، على الأشجار إلى الوراء. السيارات إلى الوراء. محطة القطار إلى الوراء، (شوكولاطة شوكولاطة..) والتهبت فَزِعا. فرأيت لوح الشوكولاطة بغلافه الذهبي، تتخاطفه، الأيدي الصغيرة النشطة جيب سترتي الأيسر؟ الفراغ. الأب والأم مشغولان بالرضيع، السائق بالطريق، الأطفال يمزقون الغلاف، ويتناهبون الشوكولاطة بأسنانهم الحادة في تحفز حيواني نهم، وأنا أغمض عيني، وألقي برأسي إلى الوراء كالمنتحر كالمستسلم للنحر، لا أحد ينتحر، ولكنه الاستسلام بعد اليأس، وإلا ماذا يمكن أن يعمله الواحد في هذه الحالة؟". ص (75/76).

   وقد استعمل أحمد بوزفور مفهوم المسخ في مجموعته الأولى "النظر في الوجه العزيز" بالمستوى الذي شاع بين الأدباء الآخرين. والذي يعتمد على التصور الأخلاقي والديني والأسطوري في آن. أي تحول الإنسان إلى حيوان بعد أن غضبت عليه الآلهة لاقترافه ذنبا كبيرا. وذلك في قصة "الغراب" ومنها نجتزئ هذا الحوار الهادف والدال:

   " أمي .. هل صحيح أن الغراب كان رجلا ومسخ؟

   فطرقعت أختي الصغرى بلسانها وأسرعت تقول:

-                     آ لويلْ؟ هذاك "بلارجْ" الذي توضأ باللبن.

صرختُ فيها محتدا: - الغراب أيضا مسخ، أنا قرأت عنه في القرآن، مسخ أو لا يا أمي؟؟

حكَّتْ أمي شعر رأسي بأناملها وابتسمت وهي تنقل نظرها بيني وبين أختي الصغرى ثم قالت:

-                     قالوا يا ولدي أن الطيور كلها كانت بني آدم ومسخت، وقالوا أن الله حين أراد أن يمسخ النملة أعطاها جناحين.

-                     كانت امرأة.

-                     كانت امرأة يا ولدي وتزوج عليها رجلها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم اعطني جناحين لأطير بهما من هذه المحنة، فأعطاها الله جناحين وطارت، ولأنها سمحت في أولادها وتركتهم ربائب مع الناس مسخها الله نملة.

-                     والغراب.

-                     والغراب مسخه الله أيضا و...". ص (13).

   ويضيف في آخر القصة:

   "قاطعتُ أبي: - أبَّا... صحيح أن الغراب كان رجلا ومسخ؟ أجاب أبي: يْكونْ آ وليدي يْكونْ.. هذا الزمان يمسخ اللي ما يتمسخ". ص (14).

   يتضح من هذه النصوص المجتزأة فكرة المسخ وهي تجسِّمُ وظيفة اجتماعية تربوية. يحاول من خلالها الكبار توجيه سلوك الصغار. وتخويفهم من اقتراف المعاصي والعبث بالنِّعَمِ. فحسب استشهاد الأم والأخت الصغرى للطفل في القصة الأخيرة "الغراب" يتبين أن المسخ الذي حل باللقلاق كان نتيجة عبثه باللبن وهو أحد النعم، والمواد الأساسية لطعام الإنسان. وللغاية نفسها مسخ الغراب. أما النملة فقد مسخت لأنها تخلت عن أبنائها ولم تكابر من أجلهم. إنه سلوك توجيهي وتربوي له القوة الكبيرة في تشكيل أذهان الأطفال. فالغامض يمتلك سلطة الإقناع والتخويف. لكن قول الأب يأتي ليوضح الغاية من موضوعة المسخ في القصص المغربية وكذلك قصص وروايات كافكا وسارتر وكامو المشار إليها هنا. إنه الزمن الذي مُسِخَ وتغير بتغير قيم أهله وتبدل أحوالهم.

   3/ تبني القصص القصيرة المغربية فكرة المسخ على التصادم غير المتكافئ بين الفرد الأعزل وسلطة المجتمع التي تحوله إلى فرد يائس كئيب متخبط في لزوجة قاتلة، تؤدي به إلى الاستسلام لمصيره وتنزع منه كل إرادة في المقاومة فينتشر الإحساس بالغربة في مفاصل جسده وتنهش الوحدة نفسه وفكره. إلى أن يتحول إلى (قرد أو كلب أو حمار) إلى كائن أدنى.

   إن موضوعة المسخ في القصة المغربية ذات دلالة اجتماعية وفكرية عميقة جدا. فبالإضافة إلى ما تضفيه الموضوعة من جمال على النص (جمالية النص) فإنها تحدد موقفا فكريا من العالم والحياة الاجتماعية الراهنة. كما نجد مثلا عند عبد الحميد الغرباوي في مجموعته القصصية "عري الكائن". أو كما نجد عند البشير جمكار في مجموعته "سرير أحزان" عندما تمسخ المدينة الكائن البسيط القروي الذي لا يحتاج إلى أصباغ (ليجمِّلَ) وجهه ويخفي ضموره وشحوبه.

   4/ المسخ موضوعة أدبية (قصصية) أحسن المغاربة استثمارها سواء في الكشف عن تصادم الفرد الأعزل مع سلطة المجتمع المحكمة القبضة. أو في إبراز تناقضات الذات الواحدة أو اختلاف الظاهر والباطن في الإنسان. وأعني بذلك تظاهر الفرد بما يلزمه به الواقع الحياتي من سلوكات كالقول واللباس والحركات والتعامل مع الناس، وحقيقته (طبيعته) التي نشأ عليها ودرج على استرجاعها كلما انزوى بعيدا في ركن حميم من الذات أو في المكان الخارجي. وقد أحسنوا استثمارها على مستوى ثالث لإبراز ضعف الإرادة والاستلاب والخنوع لدى الإنسان الراهن الذي امتهنته الذِّلَّةُ. حسب أنماط العيش وانتقال السلط، وانتقال فئة العمال والبسطاء من الفلاحين إلى الواجهة. واهتمام الكتاب بهذه الفئات الاجتماعية كان له مقصد خارجي، وهو: الكشف عن تناقضات الأوساط الاجتماعية. والكشف عن مصير الفئة القروية النازحة إلى المدن طمعا في فرص أفضل للعيش يستحسن النظر في هذا المقام قصص إدريس الخوري بدون استثناء فلاقت صعوبات جمة بدأت بالسكن غير اللائق وامتدت إلى سوء التغذية و (بهدلة) الكرامة الإنسانية، وامتصاص العرق برخص التراب.

   لذلك جاءت موضوعة المسخ. ولتلك الغاية تعددت وجهات النظر إليها، من النظرة الاجتماعية المنتقدة إلى النظرة (الانعزالية) التي يعاني فيها الفرد من الوحدة النفسية والاضطراب الداخلي ،، إلى النظر إلى تفاعل البنيات الاجتماعية والإرادة الإنسانية واختلاف القيم.

   ومن أنماط الاستثمار أيضا نجد تحولات الإنسان في حالات السكر عندما تهيمن المنسيات والمكبوتات على العقل الظاهر، فيدخل الفرد في حالات من الاستيهام والتماهي والهدر والهذيان. فيتخلى عن الزيف الاجتماعي، زيف المعاملات والتعاملات الاجتماعية والمواضعات. ويتبادل الداخل والخارج موقعيهما. فإذا كان "فرويد" يرى أن اللاوعي هو الطريق الملكي لتأويل الأحلام. فإن اللاشعور هو الطريق الملكي لتبديد المواضعات الاجتماعية. وهنا أيضا نجد المقولة ذاتها التي بدأنا بها هذه الدراسة. ومفادها أن الجوهر والعرض وجهان لعملة واحدة.

   5/ تحفل مجموعة محمد غرناط "داء الذئب" بالمسوخ. فشخصياتها تعاني من القلق والاضطراب عدم التسامح وعدم التصالح بين الذات والواقع. وتنافر الذات مع نفسها. وقد جاء لفظ المسخ صريحا في قصة "الكلب والشيطان". يقول النص:" الجوع يا لالة مسخني، إذا شبعتُ صرتُ بلا شك مخلوقا آخر. هيا شبعيني قبل أن يكتُبَ أولاد الطبري تاريخ الجوع والكلاب". ص (18/19).

   إذا استرجعنا ما ذكرناه أعلاه عن المرآوية وشرح النص الحاضر بالنص الغائب أو اللاحق بالسابق، ندرك أن المؤلف يتعامل في لغته القصصية ومع عناصر حكايته بالمضاعفة. وهنا نحتاج في القراءة التحليلية إلى قوة التأويل، ومقابلة الشيء بصورته في المرجع الواقعي أو المرجع الثقافي.

   فحديث الطبري عن بداية الخلق. وخصوصا خلق آدم وإسكانه الجنة وعصيان إبليس السجود له، وقصة طرده من الجنة. تنبئ بعداوة إبليس لأبناء آدم. لكن الحكي سينتقل إلى مستوى آخر، أي الانتقال من آدم وحواء إلى قيس بن الملوح وليلى العامرية. والمستويان معا يلتقيان في فكرة البحث. أي بحث آدم عن حواء بعد نزولهما الأرض، بعد الخطيئة. وبحث قيس المجنون عن ليلى. وهكذا سنجد المؤلف يضاعف من الحكي ويعدد مستوياته عندما يتحدث عن بحث الكلب عن الدجاجة.

   إن الحديث مرتبط باختلاف الجنسين: الرجل والمرأة. وحاجة بعضهما إلى الآخر. وتنحصر الحاجة في الرغبة الجسدية. إن عدم تحقق الصلة/الوصل بين الرجل والمرأة يمسخهما إلى كائنات حيوانية، إلى كلب ودجاجة. والجوع في هذه القصة "الكلب والشيطان" لا يأخذ بعدا اجتماعيا بل بعدا نفسانيا ويتعلق الأمر بالرغبة الجسدية/الجنسية.

   في النص التالي نلاحظ كيف يتم التداخل بين الدجاجة وليلى. ونلاحظ كذلك كيف يتحول قيس إلى كلب ينبح من الألم. يقول النص:" وقالت له باستخفاف بالغ:

-                     سير أَلْكانبو تقضي حاجتك..

   ثبت مكانه، ولم يدر كيف تحولت ليلى إلى نقطة لا لون لها. أخذت تختفي شيئا فشيئا، وتبتعد عن عينيه. ارتجَّ رأسهُ، ولم يقدر على العدو. فكر طويلا، وأخيرا نبح مثلما تنبح الكلاب. نبح بقوة. غير أن الصوت خانه ...". ص (19/20).

   6/ يوظف القاص في قصص المجموعة لفظ الجوع. ويستعمله ببعدين اثنين: البعد الاجتماعي، الذي يوضح فيه القاص الفوارق الاجتماعية وحاجة بعض الفئات إلى ما يسد رمق الجوع. وبالتالي تكون موضوعة الفقر والفوارق الاجتماعية أساسية في متخيله القصصي. والبعد النفسي كما أوضحنا في النص أعلاه "الكلب والشيطان" حيث الحاجة إلى الإشباع لا تتطلب غذاء ماديا بل غذاء جسديا يسكت إلحاح الرغبة ويطفئ لهيب الشهوة.

   في نص قصة "رباعية ميلانو" تتجلى موضوعة المسخ بمعنى التحول البنيوي (La métamorphose.  ). وتتضح كذلك الحاجة النفسانية أكثر من الحاجة الاجتماعية. ويسمي القاص مفتتح القصة بالتحول. وفيه يبرز عناصر الفجاءة في التحول، والجهل بالأسباب والدوافع. لكن فكرة الذهاب إلى ميلانو لملاقاة "البتول" تفضح ما يكمن خلف فكرة التحول. يقول النص:" حتى منتصف نهار أمس، كانت حالتي عادية. لم يظهر علي شيء يثير الاستغراب. فلم أعرف سببا لكل ما حدث. هكذا وبشكل فجائي، تداخلت أعضائي في بعضها، وتقوس ظهري إلى حد لم أستطع معه الوقوف على اثنين. ودرجت على أربع دون أن يسمع أحد حركاتي". ص (69).

   السارد في هذا المقطع المتحول لا يحدد سببا ولا شكلا يصنفه. لكن شخصية قصصية أخرى ستبرز فكرة المسخ/التحول الفيزيونومي، معتمدة على الفكرة التي أوضحناها سلفا. والتي مفادها أن المسخ عقاب إلهي لكل الذين لم يحترموا النِّعَمَ. يقول النص:" ها أنت ترى حياتك. إنه إنسان مثلك في الأصل. سخر من الطعام فلعب به. لكن الله عاقبه فمسخه وتحول إلى قرد. أنت أيضا صرت قردا. من أسوء القرود. وهذا هو مصير كل من لم يحمد الله". ص (77). وفي آخر الصفحة (نسمع) صوت شخصية قصصية أخرى تعطيه شكلا آخر. يقول النص:" هذا المخلوق ليس قردا كما تقول هذه السيدة. إنه حمار ولربما كان إنسانا وتحول إلى حمار". ص (77).

   7/ لا يقف حد المسخ هنا بل يمتد على مدى صفحات وقصص أخرى في المجموعة.لذلك نراه موضوعة مركزية في مجموعة محمد غرناط "داء الذئب". وقصة "حدث الآن" تؤكد ذلك حيث تحول صاحب السارد إلى كلب من شدة الجوع. والجوع هنا اجتماعي ما دام يعني الحاجة إلى الطعام.

   وفكرة/موضوعة المسخ في المجموعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمفهوم القصة والحكاية عند محمد غرناط. فالحكاية، وهي محتوى القصة، يتوالى سردها بفعل ضغط قوتين مغنطيسيتين: قوة السلطة الاجتماعية وضعف الحيلة وقصر اليد. تمنح السلطة صاحبها القدرة على الضحك عاليا وقهر الآخرين والسخرية منهم. ويمنح الضعف صاحبه الدناءة والرغبة في التيه والنسيان.

   الحكاية محتوى القصة، لها شخصيات وبها أفعال كلامية تتأرجح بين الحقيقة الواقعية ووهم الخيال، بين الحقيقة اللغوية والخيال المبدع.

   في قصة بعنوان "السمكة" نجد المعنى الحقيقي والقريب من التعريف الذي حاولنا استخلاصه من المجموعة لمفهوم الحكاية. فلا حاجة إلى التعليق عليها. ويحسن العودة إليها. (في الصفحات من 21 إلى 30 من المجموعة).

   أما مفهوم القصة فنضع له تعريفا كالتالي: هي إنتاج خيالي لوقائع غريبة متحولة عن مرجع واقعي أو لغوي تتحكم في تطورها حوافز لغوية وليدة الصدفة والنسيج القصصي. تتصاعد أحداثها جهة النهاية المفاجئة.يخرس فيها اللسان وتفقأ فيها العيون، لأن اللسان محايد لا يتكلم عن محتوى ما بل يحكي عن نفسه، ويحكي صمته. والعين لا ترى الحقائق المادية بل تتيه في الخيال البعيد. لأن الحكي أرض قفراء بلا حدود، وبلا خطوات، فقط هناك ريح تعصف بالأثر. إنه (أوديب) يفقأ عينيه عن الحقيقة القاسية ويتيه في الصحراء الممتدة (لولا ابنته/أخته أونتيغونة).

   هذا ما نستنتجه كمفهوم للقصة من خلال قصة "فاكهة الأولياء". وبشكل من الإغراق في التوصيف.

   ومفهوم القصة والحكاية لا يغفلان بناء النص الذي يبدأ غالبا بالحالة المضطربة. وهي في حاجة إلى إعادة ترتيب وصولا إلى حل عادة ما يكون مغرقا في الخيال والفجائية.

   8/ تبدو موضوعة المسخ فكرة سوريالية (فوق طبيعية). لأنها تنظر إلى العالم بمنظار مختلف. وعين المبدع مختلفة دائما. ترى لكن رؤيتها قد تتجاوز فعل الحاسة البصرية وتنخرط في لعبة مدمرة، تفكك مادة الأشياء المنظور إليها وتحولها إلى جُزَيْئات وذرات قابلة للتشكل من جديد في صور شتى. وبهيئات متعددة ومختلفة. وكل ذلك ناتج عن دوافع معينة ومقاصد محددة.

   لقد مورست فكرة المسخ بأشكال مختلفة، وبأبعاد متعددة أبرزها البعد العجائبي (  Le merveilleux) والبعد الغرائبي (  Le fantastique)، والبعد الساخر والمضحك (  Le grotesque.). هذه الأبعاد لها وظائف محددة حسب الظروف التي تنتجها تاريخيا وحددت ذوق متلقييها. كالأساطير اليونانية والحكايات الشعبية الشفوية ك"ألف ليلة وليلة". وكالقصص الأولى الخارقة والفوق طبيعية. وكقصص الأطفال الترفيهية والتربوية. لكن لا يبدو أن القصة القصيرة المغربية تهدف من كتابة المسخ الموقف الجمالي فحسب، بل الأهم عندها البعد الاجتماعي والمعرفي. لأن ظروف مسخ الشخصية القصصية اجتماعية. غالبا ما تؤدي إلى اضطرابات نفسية وفقدان الثقة في النفس. إن الشخصيات القصصية الممسوخة عند محمد غرناط تعاني من خلخلة قوية أحدثها التصادم العنيف بين الواقع والممكن. حيث صار الواقع أكثر غرابة. وأصبحت الشخصية القصصية تخبط خبط عشواء وكأنها ظل أو شبح لا حقيقة مادية له.

خصائص أسلوبية وكتابية.

   1/ السارد والشخصية القصصية.

   تعطي خاصية الكتابة المضاعفة، وخاصية موضوعة المسخ للقاص محمد غرناط تميزه ضمن المشهد القصصي المغربي الزاخر بالاختلافات وبالتفرد. وتفرد محمد غرناط لا يخرج به عن كتاب القصة القصيرة التي تسلك خط سر البدايات. أي أصحاب الكتابة من الخارج. وحتى وجود ضمير المتكلم فإنه لا يسمح للسارد بالمشاركة في أحداث القصص. ويفضل أن يتركه خارج الأحداث حتى ينقلها عن (نفسه). وهنا نوع آخر من المضاعفة والمرآوية لأن الشخصية القصصية هي نفسها السارد. ولم تستطع التجرد من الوسيط بينها وبين قولها. وما يدل على هذه الحالة العصيَّةِ والصعبة على التحليل والاستجلاء الواضح نسوق مقطعا من قصة "داء الذئب":" صمتَتْ. صمتُّ بدوري. اشتغلتْ بعرقها. فيما أنا فتحت مجلة وأخذت أقرأ. بعد وقت طويل لكزتني بمرفقها وهي تقول إننا على وشك الوصول. رفعت بصري ومددت عنقي إلى أعلى، ونظرت من فوق الرؤوس الهامدة. رأيت البنايات، فأطلقت آهة طويلة. وقلت لها أنا سعيد أن أمثل هنا". ص (97).

   لا تبدو من الوهلة الأولى الخاصية المتحدث عنها واضحةً. ولكن إذا أمعنا النظر في لغة الفقرة المجتزأة سنكتشف أن الشخصية القصصية المتواجدة في الحافلة (واقع القصة) هي نفسها السارد الذي يحكي عن الآخرين (الرؤوس الهامدة، والمرأة البدينة التي تشاركه المقعد والحديث) وهي نفسها السارد الذي يحكي عن أفعال الشخصية القصصية "أحمد". لكن الفرق بين الفعل والقول، وبين الأحداث واللغة (الأسلوب) يسمح لنا بالتمييز بين السارد الخارجي والشخصية القصصية فقد كان ممكنا لو أن زمن الأفعال قد تغيير من الماضي إلى المضارع. ولو أن الخطاب غير المباشر تحول إلى خطاب مباشر، ودون وسيط لغوي (السارد الخارجي).

   إن صعوبة الفصل بين السارد والشخصية القصصية تطرحه الكتابات القصصية والروائية التي تبني قولها على الضمير المنفصل "أنا" للمتكلم المفرد. لأن الحكي يعمم على الأفعال والأحداث بما في ذلك أفعال وأحداث وأقوال الشخصية المشاركة للضمير (أنا). كما في التعبير التالي من الفقرة نفسها:" وقلت لها أنا سعيد أن أمثل هنا". ص (97). ولو تحول الأسلوب هنا إلى أسلوب تعجب لسمح للسارد والشخصية بالتلاحم والاندماج:" ما أروع التمثيل هنا!" مثلا. ويترك التعليق للمرأة بالخطاب المباشر كذلك. وهنا سنجد أنفسنا أمام تطابق مِثْلي ومثالي بين السارد والشخصية القصصية كما يتحقق في المسرح.

   إذا فخاصية المضاعفة بين السارد والشخصية القصصية تشمل معظم الكتابات القصصية التي تروم المحاكاة أو نقل الواقع بأمانة.

   2/ العنوان كمحتوى مباشر.

   في مجموعة "داء الذئب" لمحمد غرناط يلعب العنوان دورا وظيفيا. فهو ليس اعتباطيا بل له دلالة. وأهم دلالاته الإفصاح على محتوى القصة. لذلك تبرز أهمية الوضوح في التعبير رغم الرمزية الموحى بها من خلال تحولات الشخصية، ورغم أسطرة الأفعال/الأحداث المركزية المُعَمِّقَةِ للدلالة (موضوعة المسخ) في بعديها الاجتماعي والنفسي.

   وانطلاقا من حرص المؤلِّف على الإفصاح عن المعاني والتعبير الواضح والبسيط التراكيب ندرجُ هذه المجموعة القصصية ضمن الكتابة من الخارج، لكن الراصدة للعالم الداخلي للشخصية القصصية، وليس فحسب الراصدة للعالم الخارجي. من خلال الوصف الدقيق أو العابر لما تقع عليه عين السارد. أو من خلال تتبع الأحداث المركزية في تسلسلها وانحدارها نحو النهاية.

   من الملاحظات التي ينبغي تسجيلها على عناوين قصص المجموعة: أولا الإفصاح عن محتوى القصص وقطع الطريق على القارئ في الوصول إلى محتوى/ محتويات متعددة بتعدد القراء والتعدد القراءات. وهذا لا ينفي أن المجموعة تقبل في الكشف عن دلالاتها العميقة استعمال التأويل. وثانيا التركيز على العلاقة الرابطة بين فعلين كلاميين أو شخصيتين قصصيتين. وهنا تبرز "واو العطف" كأداة لغوية قوية الدلالة. فهي ليست أداة ربط بين المعطوف والمعطوف عليه. بل هي مرتكز الدلالة. ومحور أفعال المحتوى. وثالثا فالعناوين جلها، باستثناء عنوان واحد (جاءت صيغته التركيبية فعلية وهو "حدث الآن". ) جمل اسمية مشطورة أو مبتورة. لأن مبتدأها محذوف ومقدر في ذهن القارئ. ولكن بقاء الخبر وهذه ضرورة لغوية فوق قدرة المؤلِّف ينحو بالقصة في محتواها نحو الكتابة الأخبارية ذات البعد الوظيفي التوجيهي والتربوي. فالقصص في المجموعة لها مقاصد محددة تسعى إلى توصيلها إلى القارئ. فهي قصص تبتعد عن المجال التجريبي والتخييل المجرد عن القاعدة (الحياة الخارجية). وما أورده هنا يسعى فقط إلى تلمس ملامح القصة عند محمد غرناط وليس معنى ذلك تجريدها من صفة المجموعة الفرادة والإضافة إلى المشهد القصصي المغربي، أو تجريدها المجموعة من حداثتها.

   ينقسم العنوان في مجموعة "داء الذئب" إلى قسمين كبيرين هما:

   الجملة الفعلية: في "حدث الآن". والعنوان هنا يركز في دلالته على دلالة الفعل الثنائية. أي الحدث والزمان (الآن). ومن خلال هذه الثنائية المتلازمة يفتح القاص أمام القارئ سؤالا يدعو إلى الاندهاش والتعجب. ف (الآن) الدالة على الزمان الحاضر تحمل تحديدا قيميا عندما ترتبط بفعل (حدث) الذي يركز على وقوع الأحداث وتسلسلها وتناميها. فماذا حدث؟

   الذي حدث يلخصه السارد فيما يلي:" توقف بصري عند عنوان غريب:" رجل يعض كلبا" ". ص (63). فاندهاش القارئ مستوحى من اندهاش السارد/الشخصية القصصية من الحدث الغريب. حيث ستنعكس الأفعال على ما هي عليه في الواقع. أي أن إنسانا آدميا يعضُّ كلبا. والعض خاصية كلبية. وهذا ما تعلن عنه القراءة السطحية للقصة. وهو خلاف ما توصلنا إليه القراءة التأويلية التي تربط بين القول القصصي وبين المرجع الذي أفرزه. وذلك بارتباط وتلازم بين الحدث الغريب والزمان الحاضر (الآن). فما زمن القصة؟ إنه الحاضر بكل دلالاته الحضارية، نهاية القرن العشرين. التقدم الاقتصادي والتطور المعرفي والنفسي. وإنشاء العمارات وغزو الفضاء، والثورة الإعلامية إلخ. في هذا (الآن) مايزال هناك من يعاني من الجوع، ومن ينافس الكلاب في طعامها. هذه قراءة تأويلية أولى. لكن القراءة التأويلية الثانية فإنها تأخذ بعدا إيديولوجيا. عندما تصبح لفظة كلب تدل على كل شخصية قصصية فقدت قيمها الإنسانية واستولى عليها الجشع إلى الحد الذي تصبح فيه الشخصيات القصصية الأخرى (المركزية) تعاني من الجوع. وتسعى حتما إلى المطالبة بحقها في العيش والحياة الكريمة.

   إنها قراءات تأويلية تأخذ شرعيتها من تلازم الزمان الحاضر والحدث الغريب.

   الجملة الاسمية: تنقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث رسمها وتركيبها، وهي:

-                     خبر المبتدإ المحذوف والمعرف ب (ال). وعدد قصص المجموعة التي جاءت على هذه الصورة التركيبية لا يتجاوز ثلاث قصص: "العداء" و "السمكة"، و "الوجه".

-                     خبر المبتدإ المحذوف والمعرف بالإضافة. وعدد القصص في المجموعة لا يتجاوز ثلاث قصص، وهي:"فاكهة الأولياء"، و " رباعية ميلانو"، و "داء الذئب".

-                     خبر المبتدإ المحذوف المرتبط بالمعطوف بواو العطف. وعدد القصص أربع. وهي:"الكلب والشيطان" و"بوغابة والحطاب"، و"الجريمة والتواب"، و"الدجاجة والكأس".

   فهل لهذا التقسيم من دلالة يمكن استخلاصها والتأثير عليها ضمن الخصائص الكتابية لدى محمد غرناط؟

   ما يمكن ملاحظته عن العناوين الأولى المعرفة بأل أنها تركز على محور القصة. وتكون دليل القارئ إلى ما يقصده ظاهر النص. أي ما يجري من أفعال لغوية مرسومة على الصفحات. وتكون عتبة تسمح للقارئ بالدخول في تفسير وتأويل الأحداث اعتمادا على الخارج نصي. الذي بدونه يبقى المعنى مستغلقا وتفهم القصص على أنها كتابة ساخرة وغريبة (غرائبية). في حين أن قصص المجموعة عميقة الدلالة ولا تتسامى على القضايا الاجتماعية والاضطرابات النفسية لإنسان العصر.

   يبدو أن هذه العناوين تتوجه إلى القارئ العادي بإبرازها ظاهر القصص القصصي. وتعرج على القارئ المثقف الذي يربط ظاهر النص وأسبابه ومراجعه الثقافية والواقعية (الحياتية) من أجل خلاصات بعيدة المعاني. والشيء ذاته يمكن قوله عن العناوين المعرفة بالإضافة. إلا أن الإضافة تحديد لمعنى اللفظة المتقدمة (الخبر) أكثر دقة من تحديد الأداة (أل).

   في قصة "السمكة" يركز القاص على السمكة في توصيل الصراع بين القوة والضعف إلى حدهما الأقصى. ويبرز أيضا العلاقة غير المتوازنة بين السلطة ورمزها في القصة "الشرطي" وبين رغبة صاحب السمكة في امتلاكها واحتجازها لنفسه. فالسمكة إذا محور كل تلك الصراعات غير المتوازنة. لكن في قصة "فاكهة الأولياء" فإن التركيز ينحاز إلى مستوى الإفصاح عن رغبة القاص/المؤلف الخارجي الواقعي في تحديد مفهوم القصة. ولذلك يقول:" هي قصة إذن. هاتها جميلة وندية" ويضيف:" لكن السر ليس في القصة، ولا في عوج بن عنق نفسه". ص (43).

   إذن أين السر؟ إنه في عملية الحكي والتلقي في آن واحد. وليست القصة إلا جسرا يمر عليه القارئ إلى معنى المعنى. إلى الدلالة المضاعفة إلى المعنى غير المصرح به. إن القصة ذريعة لقول خفي يجد معناه في تأويل الأحداث والوقائع من خلال الأحداث والوقائع المرجعية أو كان المرجع واقعيا حياتيا.

   أما العنوان الأخير فإن (واو العطف) فيه تتحول إلى أداة مركزية توجه القارئ نحو العلاقة بين الطرفين "الكلب والشيطان" أو "الدجاجة والكأس"..

   في قصة "الكلب والشيطان" يبرز القاص العلاقة بين الطرفين وبين تعاقدهما. وكما تعاقد "فاوست" مع الشيطان من أجل المعرفة. فإن الكلب مستوى رمزي يدل على الشهوة والرغبة سيتعاقد مع الشيطان من أجل الحصول على الدجاجة (تصبح في بعض الأحيان ليلى العامرية). إن التعاقد بين الطرفين مركزه الرغبة وجوع الشهوة وبحثها عن الإشباع.

   في قصة "بوغابة والحطاب" يتم التركيز على الصراع بين الخير والشر. وبين القوة والضعف. وبين أسبابهما. فتوحد الحطاب وصاحب الفُرْنِ في نهاية القصة يعبران عن المثل القائل "في الوحدة قوة وفي التفرقة ضعف". وهو ما كان قائما بين الحطاب و "بوغابة".وهكذا بالنسبة لباقي القصص.

   إن العنوان في قصص مجموعة محمد غرناط يعتبر مدخلا حقيقيا للكشف عن عالمه السري وفضائه القصصي، المتميز بما يلي:

-                     بناء النص لغويا ودلاليا على تناظر القراءات واختلاف الدلالة بين ظاهر النص وباطنه.

-                     أسطرة الأحداث والأفعال.

-                     مسخ الشخصيات القصصية للدلالة على قسوة الحياة الاجتماعية المعاصرة. والخروج بالواقع إلى الغرابة الأكثر فجاءة من غربة الخيال.

-                     تحديد مفهومي القصة والحكاية.

-                     استثمار المقروء الثقافي والمخزون الشعبي (الذاكرة الشعبية). لإغناء النص القصصي وحث القارئ على المشاركة في بلورة القصة، فكّ مستغلقاتها بما يخزنه في ذاكرته من قراءات سابقة.

-                     استثمار الغريب والعجيب والسخرية لبناء القصة (المحتوى) بناءً متوازيا من حيث القصدية. القصدية القريبة والعامة. والقصدية البعيدة والخاصة.

-                     امتدادها للتجارب السابقة التي نسِمُها بالكتابة من الخارج. وهذه الخصوصية العامة لا تنفي تفرد التجارب القصصية حسب رؤية وثقافة كل قاص على حدة.

   

يتبع....

Posté par motassim à 08:33 - كتاب/ القصة القصيرة (70) في المغرب - Commentaires [0] - Rétroliens [0] - Permalien [#]

« Page précédente  1  2  3  4  5  6   Page suivante »

<< mars 2008
dimlunmarmerjeuvensam
1
2 3 4 5 6 7 8
9 10 11 12 13 14 15
16 17 18 19 20 21 22
23 24 25 26 27 28 29
30 31

Archives

Version XML

Derniers commentaires

Derniers messages

motssim IMG_0006

جمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب

كلية الآداب والعلوم الإنسانية- مكناس

                                                 إعــــلان

    تنظم جمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب جلسة

دراسية حول التجربة القصصية للقاص علي الوكيلي، بمشاركة الأساتذة:

- محمد عزيز المصباحي

- محمد اشويكة

- محمد الزموري

- عبد المجيد الحسيب

- محمد أمنصور

    يوم الجمعة 14 دجنبر 2007 على الساعة الثالثة بعد الزوال، بقاعة الندوات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – مكناس.

                     والدعوة عامة

1/ وضعية الكاتب:

يقول الراوي :"... فلست لا بطلا ولا شجاعا. أنا مجرد كاتب" ص (106). وتشديدي على هذا القول يأتي ليبين أننا أمام حالة ووضعية مزريتين تعيشهما الشخصية الروائية، وحالة ووضعية تلخصان الرؤية التي ينطلق منها الحكي ويعود إليها، كما أنهما تبينان الفضاء الروائي الذي يشمل كل المقومات والمكونات الروائية؛ اللغة والزمان والمكان والأفعال.

لقد وجد الكاتب نفسه أمام عالم معرفته لا تقوم على اليقين المطلق، ولا حتى على الحدس. إنه أمام عالم روائي يقوم على الالتباس، وعلى معرفة آنية تتقلب كل حين، وما يسندها في البيداء غير اللايقين. عالم بلا قيمة. عالم فَقَدَ خصوصيته التي تشده كعمود فقري في جسم الإنسان، وأصبح رخوا، وبلا ملامح مميزة.

"أنا مجرد كاتب !" بلا قيمة، وما أقدمه للعالم ليس معرفة يقينية كالتي تقدمها العلوم الحق. ولست سوى رقم محايد في عملية الإنتاج، وفي معاملات السوق الجشعة. هكذا هو الكاتب اليوم بعد الذي تعرض له من التحولات والتغيرات، وبعدما تحولت القيم وأفرغت من محتوياتها.

في هذه العبارة اختزال للتاريخ السري للكتابة والأدب والثقافة عامة. وفيها تحديد لوضعية الكاتب في زمننا المعاصر الذي أصبح فيه الغرب (كموجِه) بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في مفهوم العقل وفي مفهوم القيم، وبات فيه الشرق في حاجة إلى التفكير عميقا في مفهوم الحرية والأخلاق. عبارةٌ من حيث مضمونها تقول التحول الكبير في الوعي وفي الرؤية إلى الثقافة والأدب والفكر اليوم. ومن حيث أبعادها السردية، فهي عبارة تقول اللاجدوى، وتقول الحقيقة من موقع اللايقين، ومن موقع التردد، والتداخل وألم الذات في عزلتها، وعجز الفكرة أمام الواقع.

كيف عبر الكاتب كتابة عنها؟

لقد وظف السارد للتعبير عن الحالة والوضعية تلك صيغة التساؤل، السؤال الذي تتوالد منه أسئلة أخرى ولا تجد لها أجوبة. وقد استعمل السارد هنا السؤال للإخبار لا بحثا عن الخبر. عملية القلب هذه جاءت مناسبة لحالة الحيرة والقلق لدى الشخصية الروائية، ومناسبة كذلك للا يقين السارد، الذي يحدثنا من قلب الغيبوبة، من لحظة المابين؛ بين الحياة والموت، وهو على محمل العبور نحو العالم الآخر. العالم المنشود، بعدما أصبح الواقع والحياة والعيش بلا أمل. ومن قلب الما بين يسائل السارد الحقيقة؛ ما الحقيقة؟ هل هي تلك التي عشتها، وسأرويها لكم عبر ذاكرة ممزقة، ومنهكة، أم هي تلك الحياة التي كتبتها في "الرواية" – يكتب السارد رواية ضمن الرواية، كمرآة مقعرة؟

يتساءل السارد عن الحقيقة كشيء ثابت ويقيني، وبينها وبين وهم الحقيقة الذي نكتسبه بالعادة، وبالاستكانة لكل سهل بسيط ومسلم به. لكنه ككاتب، أي مجرد كاتب اليوم، فإن الحقيقة لديه تصبح ممكنة، أي أنها كامنة في البحث عن الممكنات. وهذا يجعل قول السارد بين الحقيقة واللا حقيقة، بين الشك واليقين. فالكاتب اليوم، في ظل التحولات الكبرى لم يعد مطالبا بخلق عوالم منسجمة، ونظم صيرورة متناسقة متماسكة، لأن وضعه أصبح محايدا في المعادلات الكبرى، ولأن سوق القيم؛ العقل والأخلاق، قد كسد في ظل هجمة الهجنة، والتمزق، والجشع، والقهر، وانتشار الشعور بالقلق، وبالاضطهاد النفسي والفكري، والاغتراب اللغوي وفقدان مؤشر البوصلة لوجهته الحق.

2/ الكون الروائي:

ويبرز هذا الوضع سرديا ولغويا في اعتماد الكاتب على صيغة الاعتراف، واستعمال ضمير المتكلم الذي يجعل، كما في جل السرود الذاتية، القول حميميا. لكنه اعتراف ليس من أجل تخليص الروح والعقل من وطأة الماضي، بل هو اعتراف من أجل فهم ما جرى، محاولة إعادة ترميم الذات من الداخل. محاولة لفهم كل تلك المتغيرات الكبرى انطلاقا من التغيرات التي حدثت في الذات المفردة. وتبرزه أيضا الثنائيات التي تشكل لحمة النص الروائي، نص الاعتراف، الذي يقوم به راو ثنائي المظهر والتحقق في النص، فالراوي هو ذاته الشخصية الروائية المتحدث عنها، أي الشخصية الفاعلة في السرد الذاتي. أما الثنائيات البارزة فيمكننا إدراجها كما يلي:

التذكر ≠ النسيان

الحياة ≠ الموت

الحب ≠ وهم الحب

الحقيقة ≠ الوهم

الحركة ≠ التوقف (الثبات/ الجمود)

الإدراك ≠ الشك

الصحو ≠ الغيبوبة

هذه الثنائيات الضدية تضع الحدود لما يسمى الفضاء الروائي. أي الأبعاد الصورية للمكان، مسرح الأحداث، وهي أبعاد هندسية تحدد انغلاق الأمكنة كغرفة الإنعاش التي تتحول إلى غرفة/ زنزانة استنطاق وتعذيب نفسي وبدني، أو عربة قطار، أو حانة "التبان" لصاحبها (مقران)، أو البيت الذي يسكنه الراوي وكريمة، أو بيت ساعد وزهرة...وحتى الأمكنة المنفتحة كالشارع وحي "الثقب" يصبحان ضيقين خانقين بالوجود الدائم لمراقبين. ولا يكتمل معنى الفضاء الروائي إلا بالحديث عن الصيرورة، دورة الزمن. وقد جعل الراوي الزمن منغلقا وارتداديا. منغلقا لأنه كامن في الذات، ومرتدا لأنه محاولة لاستذكار ما مضى، ومحاولة لحث الذاكرة على التذكر، وعلى رتق ما تمزق. وانغلاق الصيرورة الزمنية داخل الذات، أو داخل الفكر يخدم الفكرة التي انطلق منها السرد: سرد ملتبس، غير منسجم، وفاجع، يروي كيف مات الراوي، واللحظة التي ألقت فيها الشخصية الروائية بجسدها أمام السيارة لتضع حدا للألم والحيرة والقلق وسوء وضعية الكاتب، وسوء المسار الذي اتخذته الأحداث، أي سوء مآل الثورة ورجالها.

لذلك كانت النهايات قاسية على الجيل الجديد، جيل واقع بين المطرقة والسندان، جيل لم يعد حرا في اختياراته، جيل أصبح محكوم الوثاق بتاريخ لم يعشه وآمال ليس له فيها نصيب. عليه أن يهتف للثورة ورجالها الأشاوس وليس له الحق في تحيق ثورته هو. هنا مكن القلق، وبؤرة الأزمة التي تحكيها رواية "أشجار القيامة". كيف لي أن أحقق ثورتي ما لم أنسف وهم الثورة السالفة. هل يمكن ذلك في الواقع؟ تجيب الرواية غير ممكن، ولكن لا باس بأن تكون الثورة حلما، مضطهدا، ينمو على الورق. أي تعدو الثورة فكرة جميلة ملتهبة وعصية في آن على صفحات كتاب. الكتاب الذي سيحول الراوي من شخصية بسيطة إلى شخصية متألمة غاضبة وحتى يائسة من كل تغيير.

ما الذي يدل على هذا الاختناق والضيق في الأمكنة والارتداد في الصيرورة الزمنية، أو على هذه الأزمة في الرواية؟

يدل عليه مصير الشخوص الرئيسة في الرواية/ الحكاية. انتحار "ساعد" بزنزانته وهو النموذج الذي كان الراوي يقتدي به، في الصلابة، والثبات على المبدإ والموقف. وهو النموذج الذي كان مثالا للنباهة والذكاء والعزيمة. فإذا سقط المثال والنموذج فليس له من معنى إلا فشل وسقوط الأمل في التحقق، تحيق الذات، وتحقيق الثورة، وتحقيق التغيير الذي ينشده الجيل الجديد.

وجنون الراوي، الذي حولته الكتابة من رجل عادي إلى رجل مختلف، لأن الكتابة ترهف الحس، وتجعل الذهن جمرة متوقدة. وفي اعتراف زهرة ذكر للنتيجتين معا؛ الانتحار والجنون، دون تأكيد أو يقين ولكن مع ترك باب التأويل مواربا على المستقبل، تقول في الرسالة/ الاعتراف:" أحببته [الراوي]، أقولها الآن بعد أن لم يعد عندي ما أربحه أو أحسره، وبعد أن غادراني معا، ساعد وهو. الأول انتحر في السجن، وما أخاله فعل ذلك، فالتحقيقات لم تثبت أي شيء، إلا أنه كان يهدي من ألم التعذيب لا غير، والثاني أصيب بالجنون، وذهب بعيدا عني، لا أدري أين، ولكنه كما يقول صديقه المختار، يدخل المستشفى ويخرج، وفي كل مرة يدخل يقول لنا أنه مات، وعاد للحياة". ص (195).

وفاة "كريمة" مقتولة في شقة الراوي. كريمة التي تقلبت بين زواجين بحثا عن منفذ تهرب منه بعيدا عن حب الراوي الذي تعلق قلبه بزهرة في حالة عشق صوفي مستحيل، ولم يلتفت إليها، هي القريبة منه والمقيمة معه. نهاية كريمة تدل على استحالة الحب. وتدل أيضا على الانغلاق والضيق وانسداد الأفق. خاصة إذا كانت الشخصية الروائية "كريمة" هي من يرجو ذلك، ويسعى إليه في رسالتها واعترافها حين تقول مستثيرة غضب إسماعيل:" ... وأنا أرجو منك رجاء صادقا أن تأتي إلي، وتخلصني من نفسي، فليس عندي حظ مع الحياة، أو مع أحد، أترجاك أن تأتي، وتنهي حياتي، فلست بالشجاعة التي تقدم على شيء كهذا، ولو كنت كذلك لفعلتها من غير انتظار، أو تمهل..". ص (204).

دخول عيد السجن في جريمة قتل. يقول الراوي واصفا حدة وقع الخبر عليه:" بعد أيام قليلة فقط زارني مختار، وهو يحمل معه نبأ سيئا للغاية. تصورت كل شيء إلا أن يحدث ذلك، وما إن قال لي: إن "عيد في السجن" حتى أصابني مس من الجنون، مس من الهلوسة، ورحت أصرخ [...] كان يحاول بطيبته المعهودة أن لا يدعني أذهب في هذياني وتخيلاتي إلى أبعد مدى. صرخ في وجهي بالرغم من ذلك عندما لم يلاحظ صدى لكلامه.

-         ماذا. هل ترغب في أن تلحق به أنت أيضا؟

وأضاف ملحا:

-         هيا اسمعني جيدا ؟

وخرجت العبارة الأثيمة من بين شفتيه اليابستين:

-         لقد قتل ابنه، عفوا ابنها." ص (154.153).

ولعيد قصة خاصة، أحب سارة وتزوجها، وهو يعرف أنها قد أنجبت ابنا جراء اغتصابها من قبل مجهول. لكنه لم يلبث أن سقط في حال من اليأس والتعاسة عندما لم تتمكن سارة من تجاوز تجربة الاغتصاب والدخول في سياق حياة نفسية واجتماعية سوية. وكانت النتيجة التخلص من ابنها (اللقيط) كما نعته مرة.

هذا الانحدار الحاد جهة الموت والقتل والسجن والانتحار والجنون ليس له سوى تعبير واحد هو انغلاق الأفق. وانسداد الأفق لدى الجيل الجديد الذي لم يكن من السهل عليه تحقيق ذاته، والارتقاء بطموحه الخاص جراء سلطة الماضي؛ الثورة العارمة لجلاء المستعمر وتحرير البلاد، وهي سلطة لم يعرف لها الجيل الجديد مذاقا لأنها لم تتمثل أمامه كالحقيقة في الواقع المعيش؛ السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي. وأيضا جراء الحصار الكبير المضروب حول الطموح الجديد والرؤى المغايرة النابعة من قلب آفاق المستقبل.

وإمعانا في توضيح حال الانغلاق واللاجدوى والوهم بالحقيقة التي تشكل الكون الروائي في "أشجار القيامة"، تشير إلى مآل "زهرة" التي جعل منها الراوي بؤرة ضوء، كان يشده نحو الأعلى، ويرص أمامه الطريق نحو الأمل. تقول زهرة عن نفسها:" ... كنت فتاة مهذبة، ومربية بطريقة فيها الكثير من النظام والعقل، والكثير من الصرامة والانضباط، ربما لأن هناك عرقا أجنبيا في العائلة من الأم، عرق دساس كما تقول العرب، له تأثيره حتما، والدي كان رجل أعمال، أو هذا ما كنت أعرفه عنه، يسافر كثيرا، وكلما يعود يحضر معه هدايا وتحفا، لم يكن ينقصنا أي شيء، بالرغم من أننا كنا في تلك الفترة في زمن الحرب، الذي لن أتذكره جيدا، كنا نعيش في المناطق المحمية، وكانت ثورة الجزائريين الذين سأستفيق على صدمة أنهم أبناء بلدي، بعيدة عنا..." . ص (180).

فرغم تضحية زهرة بوضعها المادي المريح والتحاقها بساعد، والإقامة معه في حي فقير بائس هو مسرح هذه الرواية، أي حي "الثقب"، والتزامها حرفيا بالقانون الصارم الذي سطره ساعد في باب "زوجة المناضل" كيف ينبغي أن تكون، وكيف ينبغي لها التصرف، إلا أنها في نهاية الأمر ستعود إلى والدها هنالك في سويسرا بعد انتحار ساعد وجنون الراوي. وهذا الموقف لا يختلف عن مواقف الاندحار، والنكوص والسقوط لدى الشخصيات الروائية الأخرى. إنه موقف يشكل النسيج المأساوي للنهايات في هذه الرواية.

3/ المرآة المقعرة أو الحكاية الموازية:

في رواية "أشجار القيامة" نوع من المرآة المقعرة التي تعكس ذاتها في الداخل. وذلك من خلال تعاطي الراوي للكتابة. كتابة رواية تقول الثورة، وتنشد التغيير في حي "الثقب" الهامشي حيث يسكن الراوي وباقي الشخوص الروائية.

إذا كانت رواية "أشجار القيامة" يروي قصص الشخوص بضمير المتكلم، ومن خلال تعدد الأصوات، فإن رواية الراوي الضمنية تروي طموح الجيل الجديد. تروي الثورة التي لم تقم، تروي الثورة المقموعة والمكبوتة.

لذلك فالتقعير المتحدث عنه هنا يختلف عن الذي يعرف في الدراسات النقدية؛ أي رواية الرواية ذاتها. لأن "أشجار القيامة" لم ترو ذاتها بل كانت تروي شيئا آخر. كانت تحاول التعبير عن الكامن في الفكر والنفس. ولم تكن تروي الوقائع. لأن هذه الحكاية تكفل بها الشخوص جميعا من خلال المحكي الذاتي التالي:

·            محكي الراوي: يسرد الراوي وهو في حال بين الغيبوبة والصحو، كيف حاول الانتحار عندما رمى بجسمه أمام السيارة. ويسرد لحظات التحقيق معه حول الرواية التي كتبها، والسؤال عن "فاء" وعن الثورة، وعن باقي أفراد العصابة...

·            محكي كريمة: هو اعتراف تكشف فيه كريمة عن المناطق المظلمة التي لم يتمكن الراوي من ذكرها لجهله بحقيقتها، ومن ذلك قيام كريمة بدس أوراق ممنوعة لساعد والإخبار عنه انتقاما من زهرة، واعترافها أيضا بوضع أقراص الهلوسة في شراب الراوي ... إضافة إلى إعادة التأكيد على الأخبار المنقولة والواردة على لسان الراوي. 

·            محكي زهرة: لا يخرج عن صيغة الرسالة والاعتراف. لكنه يضيء أكثر ما لم يكن الراوي قادرا على الوصول إليه كسيرة الشخصية الروائية. وأهم ما فيه اعترافها بحب الراوي بعد يأسها من ساعد الذي طال سجنه. ثم اعترافها بالعودة إلى والدها والعيش الرفيه. 

·            محكي القراء: وهو اجتهاد افتراضي من الكاتب، يقدم فيه تعاليق متنوعة ومختلفة لعدد من القراء. طبعا يوضح ذلك تنوع العقليات واختلاف قنوات استقبال العمل الأدبي. 

4/ وظائف المحكي الذاتي:

يكون تعدد المحكي الذاتي في الرواية غير ذي جدوى إذا لم تكن له وظائف جمالية وأسلوبية. ومن تلك الوظائف التي ساعدت السرد على التنامي أولا من حيث المضمون، وثانيا من حيث التوسيع في الحكاية وتنضيدها، ما يلي، مختزلا:

·            محكي الراوي: له وظيفتان أساسيتان، هما؛ تنامي الأحداث، والتشكيك في النتائج. لقد اعتمد الراوي في السرد الذي يخصه على تقديم الأحداث مستندا إلى ذاكرته، أو ما تبقى من ذاكرته بعد الاعتقال ومحاولة الانتحار، ليسترجع الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة. أي أن الرواية تبدأ من نقطة النهاية تم تعود القهقرى بحثا عن العلل والأسباب. وما دامت الأحداث التي رواها الراوي مفجعة ومأساوية وما دامت نتائجها موسومة بالفشل، فقد اعتمد على التشويش والتشكيك في الحقائق والنتائج لأن الحقيقة بالنسبة له ليست ثابتة وأزلية، بل الحقيقة الوحيدة الممكنة هي السعي نحو الحقيقة. أي أن الحقيقة تكمن في الطريق إليها. أما هي كجوهر فليست سوى سراب. فعن أية حقيقة نتحدث حقيقة الثورة المغدورة ورجالها؟ حقيقة الواقع المزري لأهل حي الثقب؟ حقيقة ملاحقة الجيل الطموح والنبش في نواياه وأحلامه على الورق؟؟؟

إن محكي الراوي وظف لقول الوقائع صريحة لكن بمنطق اللا يقين. ولقول الفشل الذريع والشامل؛ فشل الثورة في تحقيق أهدافها. فشل الحب في التغيير، وفشل الزواج من رأب الصدع الداخلي (ساعد/زهرة، كريمة/الراوي، الراوي/زهرة، كريمة/إسماعيل، سارة/عيد). ولقول الخيانة والخذلان.

·            محكي كريمة وزهرة: يقوم بالوظائف السردية التالية: إضاءة جوانب غامضة من الذات؛ ذات الشخصية الروائية، ترميم الحكاية المسرودة على لسان الراوي، إضاءة جوانب من ذات الراوي، ليس من اللائق أن تأتي على لسانه أو لم يهيئ لها سياقات سردية ملائمة، المحكي الاسترجاعي والاستذكاري، ويقوم هو أيضا بالإضاءة والترميم والرتق لكن من منطلق التاريخ الشخصي للشخوص الروائية. ويعد محكي زهرة وكريمة تأكيدا على الأحداث والأقوال والأفعال التي ساقها الراوي وهو في حال المابين، في الغيبوبة واللا يقين. إنه محكي مكمل ومنظم للحكاية المركزية.

·            محكي القراءة: ليس محكيا ذاتيا بالمعنى النقدي، ولكنه مجرد تعليق على الكتاب، أو نقد لمضمون الكتاب، أو إسقاط لذات القارئ على محتوى الكتاب، أو رفض غير مبرر، أو تحريف لمدلول الكتاب... لكن وظيفته خارجية، أن أنه يعكس وضعية الكتاب في السوق، حيث تختلف القراءات والتآويل والتفسيرات بحسب الوضعية التعليمية، والوضعية الاجتماعية، والموقف السياسي، والانتماء الطبقي...وهنا يكون الكتاب مشرعا على كل الاحتمالات. أي أن القول/ الخطاب في النهاية لا يحمل حقيقة واحدة ثابتة وإنما هو حقائق متنوعة ومختلفة. 

* مفتي، بشير؛ أشجار القيامة. رواية. الدار العربية للعلوم، ومنشورات الاختلاف. ط 1. 2005م.  

   

الغلاف الأول للرواية

5 janvier 2008

tdi


http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG060.JPG
http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG057.JPG
http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG058.JPG
http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG059.JPG
Mes préférés pour la fin ^^
http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG038.JPG
http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/IMG039.JPG

5 janvier 2008

http://images.forum-auto.com/mesimages/85482/jante30.JPG

5 janvier 2008

golf

http://img61.imageshack.us/img61/4756/pict3979gj0.jpg

Publicité
5 janvier 2008

tdi

http://img177.imageshack.us/img177/2451/pict3373ey2.jpg

1 janvier 2008

skyblog

Rechercher avec Yahoo!

Blog

brahim elhamri 2008 messi-2008

Photo de ultras3ssekary-berahim 

ultras3ssekary-berahim

Description :

love-brahim-bigg

Flux RSS

Signaler ce blog

Infos

  • Création : mercredi 31 octobre 2007 22:17
  • Mise à jour : mercredi 28 novembre 2007 19:35
  • 52 visites
  • 0 visite ce mois
  • 193 articles
  • 1 commentaire

moi

[ Ajouter un commentaire ] [ Aucun commentaire ]

# Posté le mercredi 28 novembre 2007 19:21

samahha

[ Ajouter un commentaire ] [ Aucun commentaire ]

# Posté le mercredi 28 novembre 2007 17:47

sami youssef

[ Ajouter un commentaire ] [ Aucun commentaire ]

# Posté le mercredi 28 novembre 2007 17:45

hbitri

[ Ajouter un commentaire ] [ Aucun commentaire ]

# Posté le mercredi 28 novembre 2007 17:44

simo

[ Ajouter un commentaire ] [ Aucun commentaire ]

# Posté le mercredi 28 novembre 2007 17:40

Liens promotionnels

29 décembre 2007

moimoi

moi

29 décembre 2007

moi avec simo et tarik

c moi brahim

29 décembre 2007

çi moi

i

_______c moi ____________________________

Publicité
1 2 > >>
Publicité